strong>كامل جابر
  • نازحو «البارد» يقيمون في بيوت أقاربهم لأن المدارس لم تقفل أبوابها

  • هي المرة الأولى ربما التي يكون فيها مخيّم الرشيدية
    بعيداً من تداعيات الأحداث الأمنية الحاصلة في لبنان عموماً وغيره من المخيّمات الفلسطينية خصوصاً. المخيّم الذي يغلب عليه اللون الواحد، ويعيش اكتفاءً ذاتياً على رغم كلّ مشاكله، استقبل نازحي «البارد» من دون أن يغيّر شيئاً في يومياته


    لا لون يعلو فوق لون «منظمة التحرير الفلسطينية» في مخيم الرشيدية جنوب مدينة صور، أمنياً وسياسياً واجتماعياً. إذ تتمركز عند مدخله فصيلة مراقبة أمنية على بعد خمسين متراً من حاجز الجيش اللبناني، وتتوزّع الحواجز والنقاط الأمنية والعسكرية في مختلف أرجاء المخيم.
    ولا صورة ترتفع فوق صورة «أبو عمار» ياسر عرفات، ثم صور «الشهداء». شهداء الانتفاضة أو الانتفاضات في فلسطين، قادةً وأفراداً، من «فتح» حتى «حماس»، إضافة إلى أسماء لمناضلين زركشت الجدران، ولفتية قرروا الدخول في التجربة.
    ولا صوت يعلو غير الهدوء في المخيم الواقع بين السهل الزراعي الأخضر الحاضن مئات المزارعين الفلسطينيين، والبحر المستقيم على طول الناحية الغربية لصور المدينة.
    هكذا يمارس مخيم الرشيدية حياته اليومية كالمعتاد. فالإجراءات الأمنية للجيش اللبناني عند مدخله تقلّصت بعد رسائل طمأنة من عائلات المخيم تدحض الفوضى، وإجراءات لمنظمة التحرير تزيد في الاطمئنان.

    اكتفاء ذاتي

    هنا يعيش الأهالي اكتفاءً ذاتياً، وخصوصاً مع وجود كثافة سكانية في المخيّم الذي لا يزيد عدد سكانه على عشرين ألفاً منذ وقت طويل. فكلّما ارتفعت وتيرة الولادات، رافقتها هجرة أجيال نحو الخارج أو الغرب أو الخليج بحثاً عن فرص عمل، أو حتى إلى الخارج القريب من المخيم، بحثاً عن سكن أرحب، في مدينة صور والجوار، ولا سيما بعد تحسّن الأوضاع الاقتصادية لبعض العائلات التي كانت في ألمانيا أو الخليج. يتّصف مخيّم الرشيدية بتطوّر نسبي، من شاطئ يلقّن بحره أبناء المخيم كلهم فن السباحة، و«من لا يجيدها، فمن الطبيعي أن يكون من خارج بيئته». وثلاثة ملاعب شجعت الرياضة ونمّتها، ومدارس مختلفة محتشدة بالطلاب، وكذلك كنيستان تشيران إلى قاطنين سابقين، ومساجد ثلاثة، ودور للكشافة، ودكاكين تنتشر في مختلف الشوارع والأحياء، ومقاهٍ ومطاعم ومستشفى للهلال الأحمر الفلسطيني، وبعض مختبرات وصيدليات وعيادات للأونروا وأخرى خاصة، ومحطات للوقود، وفيض في المياه من ينابيع وأنهار تتفجّر من المخيم وتسقيه بـ«مشروع» (قناة) مع جارته مدينة صور وتكمل دورتها في المخيمين: الجديد والقديم.
    كلّ هذه المعالم لا تمحو مظاهر «الفقر» الراسمة بصماتها هنا وهناك، حتى على الشاطئ، وساهمت في تنظيم حياة «الرشيدية» من دون «الخروج على الأصول والعادات وضابط الدين. فطبيعة المخيم محافظة، إذ لا يمنع الفتاة مثلاً من السباحة، لكن بلباس محتشم حتى لو أتت من أوروبا»، يقول الزميل إحسان الجمل. ويشير إلى أن الأونروا «وعلى رغم تراجع تقديماتها فهي تبني اليوم نحو 150 وحدة سكنية لحالات العسر الاقتصادي الشديد في مخيمات صور، منها 30 في الرشيدية، ومع ذلك تعتبر الحركة العمرانية بطيئةويتحدث الجمل عن بنى تحتية مقبولة «ساهمت بعض الدول المانحة في توفيرها وإعادة بناء المدارس وترميمها وتقديم مساندة للمنظمات غير الحكومية: روضات وأندية أطفال، لكن المشكلة الأكبر هي عدم توافر فرص العمل لأصحاب المهن الحرفية، فتصل نسبة البطالة في بعض المواسم إلى 60 أو 70 في المئة لطبقة تشكل أكثر من 35 في المئة من سكان المخيم». ويوضح أن «القسم الأكبر من الأهالي كان يعتمد على العمل في البساتين منذ التهجير بعد عام 1948، سواء في رعايتها أو قطف الليمون أو حرث الزرع والفلاحة. اليوم تطورت الآلات الزراعية، وجرى استبدال بساتين الحمضيات ببساتين الموز، وجاءت نكبة القنابل العنقودية لتلقي بحملها على العمال الذين سقط العديد منهم شهداء أو معوقين جراء انفجارها، وبات من يزرع سهل المخيم هم من تتجاوز أعمارهم خمسين وستين».

    رواتب متأخرة

    الوضع يختلف بالنسبة إلى صائدي السمك الذين يصل عددهم إلى مئتين ويؤدون دوراً ملموساً في الحياة الاقتصادية للمخيم. وقد جرى تنظيم عملهم عبر ميناء صور، بالتوافق مع المرجعيات اللبنانية المختصة، ودُمجوا في إطار نقابة صيادي الأسماك في الجنوب. لذلك لن تتحرّك مراكبهم إلا مع مراكب صيادي صور وتنام في الميناء «التزاماً بالقانون».
    الأمر الثالث الذي يعتاش منه الأهالي، هو الرواتب التي كانت تصل من منظمة التحرير من فلسطين، والتي توقفت منذ نحو أربعة أشهر. فيوضح أحدهم، رداً على سؤال، أنه «بعد أزمة السلطة الفلسطينية، باتت الرواتب تأتي منتقصة كل عدة أشهر». يضاف إلى أن الجهة المسؤولة عن الجانب الإنساني والاجتماعي «الأونروا» قلّصت من خدماتها، بعد معاناتها عجزاً مستمراً. كل هذه الأمور تلقي بتبعاتها على المخيم، ويخفف من وطأتها أن الأمن ممسوك فيه ولا حوادث تعكّر صفو القاطنين.
    لذلك يتحرك أمين سر منظمة التحرير في لبنان سلطان أبو العينين فيه، بهامش كبير من الحرية والأمن «لا يمكن توافرهما في مخيم آخر، على الإطلاق»، يقول أحد المقربين ويجعله منطلقاً لقيادته. فأبو العينين يستقبل طلبات الحالات الاجتماعية والصحية، يناقش، ولا يتردد في الاستفسار من مستشار أو «مرافقين» (مسلحين باستمرار)، ثم يرتفع الصوت المعلن مواقف تجاه ما يجري في «عين الحلوة»، وبطبيعة الحال في «نهر البارد» منفعلاً أحياناً، مكرراً في أحيان أخرى ودائماً بقصد إسماع المحيطين به.
    وكما ساهم هذا الأمن «النسبي» خلال عدوان تموز وآب العام المنصرم في استقطاب نحو 400 عائلة نزحت من قرى شرق صور، وخصوصاً من شيحين ويارين وجوارهما، ها هو اليوم يستقبل عائلات من مخيم نهر البارد، وكذلك من عين الحلوة.

    نازحو «البارد»

    في المبنى الحاضن للعائلات النازحة من مخيم الشمال ينبعث صراخ الأطفال، وفي الشارع المقابل، كما في مختلف طرق المخيم وأزقتها، يعبر فتية وشبان، بقصات شعر حديثة، وبلباس أنيق، يذرعون الطرق ذهاباً وإياباً.
    في الخارج تلميذات عائدات من مدارسهن. العام الدراسي يوشك على الانتهاء، والامتحانات باتت قريبة، لذلك لم يفتح أبناء المخيم المدارس لاستقبال النازحين: «يجري استقطابهم في بيوت الأقارب حتى الآن»، يقول إحسان الجمل، متفهماً «أي إجراء يتخذه الجيش اللبناني عند مدخل المخيم، فالجيش يعيش وضعاً غير طبيعي، ونحن ندرك أنها حالة طورائ، ولذلك لا نشعر بقلق واستياء. لنا حاجز عند مدخل المخيم يبعد خمسين متراً من حاجز الجيش، رفع هو الآخر من حالة التأهّب والاستنفار، من أجل توفير سياج أمني لإخوتنا في الجيش اللبناني، لأنه، مهما ادّعينا المثالية، يبقى الخوف والقلق مشروعين من أي تهور غير مقبول لا يمت بصلة إلى ثقافتنا وتربيتنا الوطنية».
    وفي منزل أبو جمال كمال مشعل الذي حلّ فيه 42 فرداً من مخيم نهر البارد، بينهم 24 طفلاً من أبناء مصطفى محمد ربيع وأحفاده وأقاربه.
    يروي مصطفى أن المبنى الذي يملكه وأولاده في «البارد» تعرّض للقصف منذ اليوم الأول: «يقع في الجهة الجنوبية الغربية للمخيم ومؤلف من 6 شقق. أصيب منذ اليوم الأول، مع العلم بأنه لا وجود لجماعة فتح الإسلام بيننا»، ويستدرك بجملة اعتراضية «والعلم عند الله»، ثم يتابع: «ثم انهمرت القذائف على بيوتنا وبيوت الجيران مع أنه لا انتماءات سياسية لي ولهم، أنا أملك فرناً، كلّفني مئة ألف دولار بعد عمل في الخليج، تعرّض هو الآخر للقصف، لذلك حملت عائلتي وانتقلت إلى منزل والدي القديم واجتمعنا فيه نحو مئة نفر، ومع اشتداد القصف خرجنا وأتيت بعائلتي إلى الأقارب هنا الذين لم يقصّروا معنا، هم والجمعيات وغيرهم».
    ويسرد مصطفى ربيع وأبناؤه كيف أنهم بدأوا يشعرون بالخوف والقلق بعد إعلان منظمة فتح الإسلام نفسها، «وخصوصاً بعد خلاف أحد عناصرها مع أحد أبناء المخيم». يقول ابنه فؤاد: «ثم دخول حافلات تقلّ عشرات الركاب منهم، هذا الأمر يعرفه كل أبناء المخيم، ويسألون كيف عبرت هذه الحافلات إلى داخل المخيم من دون رقابة النقاط والحواجز المعنية، حتى بتنا نحن من يدفع ثمن هذه المغامرة؟».




    هجرة... هجرات عام 1963 أُنشئ المخيم الجديد في الرشيدية لتغدو مساحته 2,5 كيلومتر مربع، ونُقلت إليه عائلات فلسطينية من ثكنة «غورو» في بعلبك ومن ساحة «حواسة» في «البصّ» بعدما أجبرتهم الدولة اللبنانية على المغادرة بسبب الآثار في منطقة صور.
    أواخر السبعينيات بدأت حملة تهجير جديدة بسبب القصف الإسرائيلي المستمر على المخيم، فتركت العائلات الأرمنية الباقية نهائياً، ليأتي اجتياح عام 1982 ويسبب هجرة شبه جماعية بعد تدمير كبير، ثم كانت عودة منتقصة. وساهم حصار حركة أمل لمخيم الرشيدية بسبب «حرب المخيمات» في مغادرة العديد من العائلات نحو الدول الإسكندنافية والأوروبية، وخصوصاً ألمانيا، بحثاً عن ملاذ اقتصادي يبدل أوضاعها.
    ومع ذلك، ما زال المخيم المسيّج بالمساحات الخضراء المنتشرة في البساتين والسهل، وبوفرة المياه الحلوة والمالحة، يرسل خيرات أرضه إلى أسواق مدينة وصور وجوارها، ويستردها مالاً يعزز البقاء، على أمل الحدّ من الهجرة، أو بالأحرى من الهجرات المتلاحقة.