غسان سعود
عكار ودّعت معماري وسليمان بعرس أحمر بعدما اجتاح الموت كل الخطوط الحمر

يجتاح الموت قرى عكار، يخنقها. ويتمدد الأسى حتى يصبح الحداد جماعياً، فتقفل الأسواق، المحال والدكاكين الصغيرة. وتفرغ الشوارع من أهلها، كما تخلو الحقول والبساتين من قاطفي خيراتها. ويصبح الكلام، كل الكلام، مفردات تعزية مجمّعة بعضها فوق بعض.
هنا يعيش الناس مأساة استثنائية. إذ لا يخلو منزل من قريب يقاتل في «البارد»، ولم تسلم قرية من شهيد أو جريح سقط على حدود «الكامب» وعاد ليروي بمعنويات محطمة عن المعضلة التي يواجهها الجيش هناك. هنا ينتظر الناس نعي ابنهم، ولا يصدّقون كل التطمينات والأخبار عن اقتحام وتقدم و«حسم بات بحكم الحاصل».
ورغم استبداد الموت بهؤلاء المنكسرين قلقاً من مواجهة أبنائهم شبح الموت من جهة، وتزعزع كرامة وعزة مؤسستهم العسكرية من جهة ثانية، يحاولون القبض على أنفاسهم ويكتمون مآخذهم، باحثين عن بصيص انتصار يعزّون أنفسهم به، ويستعيدون به قليلاً من معنويات اندثرت على أطراف مخيم البارد. فيما الروايات التي يتناقلونها تزيدهم غضباً من التروي مع «مسلحي المخيم وحاضنيهم الذين لم يحركوا ساكناً لمواجهتهم، رغم كل ما يلحق بالجيش». ولا يجد بعض الأهالي، مسلمين ومسيحيين، سبباً إنسانياً أو أخلاقياً مقنعاً يحول دون «حرق المخيم بكل ما فيه أو تحطيمه بشكل كامل». هنا يقود الغضب الحواس، ويحرك المشاعر، مسخّفاً السياسة والتحليلات وتبادل الاتهامات، فيما «أبناء الناس يموتون لسبب مجهول».
أمس، واصلت بقعة الحزن امتدادها إلى كامل الوطن، وحطّت هذه المرة في بلدة السكسكية في قضاء الزهراني، لتخطف العنصر في وحدة الهندسة في الجيش اللبناني المؤهّل أول الشهيد مصطفى علي ضاحي (30 عاماً). أثناء تشييع الشهيد الذي لمّ الحشود الغفيرة. لم تقوَ عروسه آمنة حيدر (18 عاماً) على الوقوف مع العائلة لتقبّل التعازي، فالفجيعة كسرت خاطرها هي وطفلها الذي ستلده بعد شهرين على غياب أبيه، الذي تصادف مع مرور عام على زواجه منها. كما لم تلقِ آمنة النظرة الأخيرة على الجثمان الذي حملته أكتاف رفاقه في الجيش على وقع موسيقى الموت، يتقدّمهم ممثّل قائد الجيش العقيد أديب غطاس. وفي بلدة عانا ـــ البقاع الغربي، كان الموعد مع تشييع الرقيب الشهيد شادي الجلبوط. أما عكار، التي نالت حصة الأسد مع فتوحات الموت، فكانت على موعد في بلدة حرار مع تشييع العريف الشهيد محمد الحسين.
لكن عرس الموت الكبير في عكار، أمس، كان أحمر بعد أن اجتاز الموت كل الخطوط الحمر، وافترس شابين كانا منذ اندلاع المواجهات ينقلان الشهداء والجرحى من خطوط المواجهات إلى المستشفيات.
عينا بولس معماري وبسمته تطارد الدمع، تجذبه بقوة، عاصرة كل ما تختزنه الذاكرة من صور. هنا صديق يروي عن بولس المشاغب في المدرسة، وآخر يتحدث عن تردده في اختيار تخصص جامعي. وبينهما زميل لم يفارقه منذ تطوع في الصليب الأحمر قبل خمس سنوات، يخبر عن بولس المندفع، العاشق لعمله الإنساني، المتفاني الذي يقضي في مركز الصليب الأحمر أكثر من ست عشرة ساعة يومياً.
العاشرة صباحاً، يعود بولس إلى منزله بعد غياب يومين. تهرع أمه لملاقاته، فيما شقيقه بطرس يتلعثم في مخاطبته أثناء رفع غطاء النعش. كعادته بولس يبدو عنيداً، كأنه يقول للموت لن تكسرني ولن تقلل من هيبتي، تردد إحدى قريباته. فيما حبيبته فانيسا تفتح عيونها لثوانٍ، فتلوح آلاف الصور الحلوة التي جمعتهما معاً من تحت فيء أشجار المدرسة إلى زواريب البلدة، مروراً بجمعات النهر وقاعات الجامعة والسهرات الطويلة في مركز الصليب الأحمر. تعجز فانيسا عن تصديق الخبر، تسمع النديب حولها لثوان وتعود لتستسلم إلى غياب الوعي.
العاشرة والنصف، يجمع شبان الصليب الأحمر صفوفهم ويتوجهون إلى المستشفى الحكومي لنقل هيثم سليمان إلى عائلته التي كانت تنتظره وأبناء القرى المجاورة على مفرق بلدة الحكر حيث أنزل النعش فوق أكف الشبان الحمر الذين رفعوه عالياً واخترقوا الحشد، مكررين مشهد الرقص. والعريس هذه المرة أنهى التجهيزات لخطبته التي كانت مقررة يوم الإثنين المقبل. وأسرّ لوالدته، قبل مغادرته المنزل إلى مركز الصليب الأحمر، عن ضيقه من إجباره على ارتداء بذلة رسمية لم يعتد عليها في الخطبة. تلاقيه الوالدة، ترقص بصورته، تخاطب الناس، الموت، الله. تغيب عن الوعي. كيف تصدّق أمّ بدأت فرحتها بالإعداد لعرس ابنها قبل أن تختتم فرحتها بتخرجه أن ابنها مات. يزداد قرع الجرس. يتذكر الناس ابتسامة هيثم، نكتته الجاهزة، وتحوله وسط محيطه إلى مثال في التهذيب والسلوك المميز. وتطل من مسافة بعيدة عيون تلامذته الذين لم يصدقوا خبر استشهاد الأستاذ الذي كثيراً ما كرر دعوته لهم بالتطوع في الصليب الأحمر لخدمة أهلهم والإنسانية.
وبين الشيخ محمد بلدة بولس والجديدة بلدة هيثم، رايات بيضاء ومركز للصليب الأحمر اختزن أمس حزناً استثنائياً وألماً يصعب وصفه. هنا صبية تبكي لسماحها لهما بالنزول من الإسعاف. وهنا درع هيثم المشظّى بدمائه، محاطاً بزملاء يتلمسونه كأنه يشعرهم بوجود صاحبه. وهنا جوني الزميل الأقرب للشابين غارق بين الأوراق، يبحث وسط دموعه وذكرياته عن بعض محاسنهما ليكتب سيرتهما الذاتيّة. ويستمر القنوط على حاله في مركز الصليب الأحمر وتوافد المعزين، حتى بعد ساعات عدة من وداع الشابين.
وبعيداً عن القلق على مصير الأبناء والجنازات اليومية التي تنكّد يوميات العكاريين، مصائب إضافية يعاني منها كثيرون. الطلاب والتلامذة لا يجدون مساحة للتركيز عشية امتحاناتهم، عائلات صيادي الأسماك الممنوعين من الخروج إلى البحر لا تجد رغيف خبز بعد انقطاع عشرين يوماً عن العمل، أصحاب بساتين التفاح والكرز يتأملون انقضاء الأيام الأولى لموسم القطاف حيث الأسعار تكون مرتفعة من دون أن يحركوا ساكناً لعدم توفر المواصلات، وسائقو سيارات الأجرة والفانات الذين كانوا يتوجهون منذ الصباح الباكر إلى عملهم بين عكار وبيروت يئسوا من عزلتهم وتوقف مصدر دخلهم. فيما ترجو معظم العائلات أبناءها في المهجر إعادة النظر بقرارهم إلغاء زيارتهم.
هكذا يحاول الناس التفاعل مع الموت والقلق بانتظار انتهاء المعركة، التي رغم كل تضحياتهم لا يريدون للجيش أن يخرج منها مهزوماً. ويقول الناس، وسط مأساتهم، إنهم يشعرون بالعزلة، ويرون مصابهم مجرد خبر هامشي في الإعلام وفي يوميات الوطن. ويأسفون لاستمرار الحياة على طبيعتها «كأن قدرنا أن نشاهد مبتسمين ذهاب أبنائنا إلى الموت». فيما يؤكدون أن عودة الأمور إلى طبيعتها بين العكاريين وفلسطينيي البارد بعد انتهاء المعركة أمر شبه مستحيل. ولا يتردد البعض في دعوة المتحمسين لإعادة إعمار المخيم إلى «بنائه في أوطانهم».