strong>بيسان طي
  • هنا توجد كل الفصائل والأحزاب السياسية... لكن في الإطار الاجتماعي

  • لا يزال مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين بعيداً عن تداعيات أحداث مخيم «نهر البارد»، لكن أبناءه يعيشون اليوم خوفاً كبيراً من نكبة جديدة في «المخيّم ــ الوطن». تضاعف هذا الخوف خطابات بعض السياسيين اللبنانيين

    في شارع يتفرّع من طريق المطار تنتصب خيمة صغيرة هي «خيمة العودة إلى نهر البارد»، وخلفها يقع مدخل مخيم برج البراجنة.
    في ذلك الشارع تزدحم منذ سنوات طويلة السيارات الداخلة إلى ضاحية بيروت الجنوبية، غير أن المخيم يبقى في ذهن ركابها وكأنه كانتون معزول مظلم، لا يهمّهم أن يتعرفوا به. هو بالنسبة إليهم أشبه بالمغارة المجهولة التي يخافون دخولها فينسون وجودها. لكن المخيّم موجود وهو يمتدّ على مساحة كيلومتر مربع تقريباً، ويعيش فيه حالياً عشرون ألف شخص وفق تقديرات غير رسمية يتحدث عنها مندوبو جمعيات متنوعة.
    ينغلق المخيم على سكانه، هو ليس كانتوناً كما يعتقد المارّون قربه، لكنّه صار بالنسبة إلى سكانه كالعش، يستكينون إليه ويشعرون بالأمان فيه، «كأنه بلد يضمّنا» تقول خلود الحسيني. هي امرأة في نهاية العقد الثالث من العمر، تنشط في العمل الاجتماعي، وتعمل كمساعدة باحث، تعرف شؤون المخيم وشجونه من خلال عيشها فيه واشتراكها في إعداد دراسات ميدانية عنه.
    في هذه البقعة الصغيرة التي يمتدّ عليها المخيم كبرت خلود وتزوجت وأنجبت، وعاشت الخوف والرعب من الحروب والاقتتال، وهي الآن ككل أبناء المخيم تشعر بخوف كبير هو «خوف أن يطالنا ما يحدث في مخيم نهر البارد، وخوف أن نعيش نكبات جديدة».
    الشعور بالأمان تبدّل خوفاً إذاً، على رغم أن أبناء المخيم خبروا الموت، وعاشوا حروباً، واعتادوا الصراعات، ولكن «ما يحصل الآن يخيفنا، تخيفنا كلمات أمين الجميل وسمير جعجع وغازي العريضي والجسر وغيرهم... هل يريدون القضاء على الفلسطينيين، وما دخلنا نحن بفتح الإسلام؟»، هذه كلمات خلود، يرددها أيضاً كثيرون في المخيم اعتادوا أن تدور يومياتهم في مساحته الصغيرة، جعلوه كخلود وطن الانتظار حتى العودة إلى الوطن الحقيقي، يعرفون بداياته، وقصص توسّعه «وكل الجروح التي تختزنها ذاكرة من مات أهله أو أولاده».

    العلاقة مع آل السبع

    في مطلع الخمسينيات كانت بداية المخيم الفعلية، إذ لم يأت اللاجئون من فلسطين فوراً إليه، بل وصلوا بعد النكبة إلى الجنوب، وتوزعوا في قراه، بعضهم رحل إلى سوريا، والبعض الآخر إلى الشمال، وبعد نحو سنتين تحولت تلة الرمل عند أطراف منطقة برج البراجنة أرضاً تستضيف لاجئين من فلسطين. فقد كان أبناء عائلة مصطفى من ترشيحا على علاقة جيدة مع آل السبع في البرج، وكانت هذه العلاقات علاقات تجارية قبل النكبة، وساعد وجود أشخاص من آل السبع في المجلس البلدي للبرج على السماح بإقامة المخيمتولّت منظمة «الأونروا» نصب الخيم وازدحمت فيها العائلات، فصار أقارب آل مصطفى وأصدقاؤهم وأنسباؤهم يرحلون إليه.
    عانى سكان هذه الخيم كثيراً، ففي الشتاء كانت الرمال تجتاحهم، وتزيد من صعوبات حياتهم، فنقلت «الأنروا» إلى المعنيين في الدولة اللبنانية مطلب اللاجئين بأن يسمح لهم بتطوير هذه الخيم، فصنعوا جدراناً من التنك وجعلوا سقوف «المنازل» من قماش الخيم، واستمروا على هذه الحال طويلاً. «ومع دخول أبناء الثورة الفلسطينية تغيرت الحال كثيراً، وبُنيت البيوت الصغيرة والمتباعدة إذ لم يكن عدد سكان المخيم كبيراً».
    طالت إقامة سكان المخيم فيه، هؤلاء الذين اعتقدوا أنهم سيعودون إلى فلسطين سريعاً، ماتوا فيه، وصار أحفادهم وأولاد أحفادهم شباب مخيم برج البراجنة حالياً. وضاق المخيم بسكّانه، فتلاصقت البيوت لتتسع لهم، وصار كالمخيمات الأخرى عبارة عن مبان وزواريب صغيرة جداً، حتى إن بعض الجنازات لا تخرج من بيوت أصحابها لأن هذه البيوت غائرة في زواريب ضيقة، ولا تفصلها عن البيوت الأخرى إلاّ عشرات السنتيمترات.

    التكافل الاجتماعي

    يشبه تلاصق البيوت العلاقات التي تربط السكان، إذ ثمة ترابط شديد بينهم، وتكثر الرابطات أو الجمعيات، فلأبناء ترشيحا جمعية ولأبناء البلدات الأخرى جمعيات تتولى إعانة أفرادها في الأفراح والأتراح. وتقوم الجمعية بجمع «الاشتراكات» من العائلات بشكل شهري، وقد تدفع العائلة الفقيرة ثلاثة آلاف ليرة فقط.
    التكافل هو سمة العلاقات بين السكان، وهم يعرفون بعضهم بعضاً جيداً، فالغرباء قلّة بينهم. وهم في الأصل أبناء بلدات معينة من فلسطين كترشيحا والكويكات وغيرهما، وقد سموا «الأحياء» في المخيم بأسماء بلداتهم، لذلك لا تفسد الخلافات السياسية «للودّ قضية» بينهم، على رغم أن معظم الفصائل والأحزاب ممثلة في المخيم. وللأحزاب الإسلامية كحركة حماس والجهاد الإسلامي وجود لكنه لا يظهر بشكل جلي من خلال الوجود المسلح بل من خلال العمل الاجتماعي، وفق ما تذكره ألفت محمود مديرة «جمعية المرأة الخيرية» في مخيمات بيروت والجنوبغلب «الاستقرار» على حياة المخيم إذا ما قورن بمخيميْ شاتيلا وعين الحلوة، لكنه تأثر بالطبع بحرب المخيمات، وبنزاعات خلال الحرب اللبنانية كان الفلسطينيون طرفاً فيها أو ضحاياها فقط، وبسببها ارتفعت نسبة الهجرة من المخيم إلى دول الخليج ــ قبل حرب الخليج الثانية بشكل خاص ــ ومن ثمّ إلى الدول الأوروبية.
    لا يحتاج المرء إلى عناء كثير ليلحظ ارتفاع نسبة الفقر في المخيم. فمنذ اتفاق أوسلو تراجعت التقديمات لأبناء المخيمات، وتقلصت موازنة «الأونروا»، والمهاجرون إلى الخليج صاروا يتقاضون رواتب لا تكاد تكفيهم فقلّت تحويلاتهم النقدية إلى أهاليهم.

    نسبة مرتفعة للمتعلّمين

    في المقابل، يفخر أهالي مخيم البرج بارتفاع نسبة المتعلمين بينهم، «فقد عُرف عن أهالي ترشيحا قبل النكبة أنهم طلاب علم»، تذكر خلود. ولكن هذا التوجه تراجع في الفترة الأخيرة لأسباب عديدة «أبرزها الوضع الاقتصادي المتردّي، والشعور بالإحباط»، تؤكد ألفت مضيفةً «أنه عصر الفتيات اللواتي يقبلن أكثر على العلم ويجدن فرصاً أكثر من الفتيان»، ولفتت إلى أن الجمعيات أو الجهات الأوروبية التي تقدم منحاً تعطي نسبة كبيرة منها للبنات.
    الغرباء قلة لا تكاد تُرى في مخيم البرج، لذلك عندما حاول عناصر «فتح الإسلام» الاستقرار في المخيم، لوحظوا بسرعة وطُلب منهم أن يغادروه. وقد لفتت بعض النسوة إلى أنهم لم يسكنوا فيه إلّا يومين، وعلى رغم ذلك وزّعوا عدداً قليلاً من المنشورات التي تدعو إلى حياة اجتماعية شديدة ملتزمة، كأن تُمنع المرأة من الخروج ليلاً.
    ارتفاع نسبة المتعلمين في المخيم منذ بدايته، والعلاقات «القروية» بين أبنائه من أبرز سماته، ولكن زائره يلحظ اختلافاً ــ ولـــــو طفيفاً ــ في تصرفات الصغار فيه. «ثمة عــــــــــقلية متفتّحة نوعاً ما في المخـــــــيم»، تقـــــــــول ناشطات أجنبيات، إذ من السهل أن ترى مراهقاً يضع قرطاً في حاجبه مثلاً، هذه العقلية تحديداً هي ما يمنع سطوة فكر أصولي في برج البراجنة على رغم أن المخيم مغلق، كما هي حال المخيمات الأخرى. ثمة عادات اكتسبها الشبان الصغار بسبب موقع المخيم وقربه من بيــروت، ولأن المهاجرين منه يعودون إليه في الصيف ويحتك أبناؤهم بسكان المخيم فيعرّفونهم بـ«وجوه» مـــــــن الحياة الأوروبية، لكن هذا الأمر لا يعني أبداً أن الانفتاح والليبرالية يطغيان على التركيبة الاجتماعية فيه، فهو ببساطة شديدة أكثر انفتاحاً من مجتمعات المخيمات الأخرى، ولكنه في النهاية جزء لا يتجزأ منها.