إبراهيم الأمين
منذ اليوم الأول لانطلاقة ما سُمّي المبادرة المثلثة التي تجمع فرنسا والسعودية وإيران، والكلام كثير عن موقف الطرفين الاكثر حضوراً في السياسة اللبنانية، أي سوريا والولايات المتحدة الاميركية، والى جانب التحليلات التي تعكس التوقعات والتمنيات من جهة وتدل على حجم التواصل مع مركز القرار من جهة أخرى، فإن الاوساط كافة تتداول بكمية من المعطيات عن مواقف الاطراف المعنية بما يجري، ما يوضح جانباً من الصورة التي تبدو خلال الساعات القليلة الماضية قاتمة مع ميل أكبر نحو التشاؤم جراء الصدام القائم في الاولويات من جهة وفي المبادرات من جهة ثانية.
صحيح أن المساعي السعودية لم تتوقف بعد لإنضاج تفاهم داخلي على حكومة وحدة وطنية تحظى بدعم إقليمي. لكن الشكوى من العرقلة لا تنحصر هذه المرة بالسوريين فقط. ربما هي المرة الأولى التي يتحدث فيها طرف مثل السعودية أو حتى فرنسا عن قلة اهتمام أميركي بإنجاح المحاولة، حتى بات الحديث عن مواقف كل من وليد جنبلاط وسمير جعجع رهناً بما يشير إليه جيفري فيلتمان، الذي عاد وبرز الآن وحيداً في الساحة الدبلوماسية بعد التدهور السريع الذي أصاب موقع السفير الفرنسي في بيروت برنار إيمييه، برغم أن الاخير يحاول التصرف على أنه رجل دولة وأنه ينفذ تعليمات إدارته في باريس. لكن الاكيد هو أن رجال فرنسا ـــــ شيراك صاروا يفضلون سماع إيمييه خارج اللقاءات الرسمية، وهم سينظرون إليه بشيء من السخرية عندما يسمعون شرحه الداعم لمهمة الموفد جان كلود كوسران عن الحوار المفتوح مع الآخرين دون شروط. وهو أمر أتاح في لحظة معينة منح السفير السعودي عبد العزيز خوجة هامشاً إضافياً، باعتبار أنه الوحيد القادر الآن على التواصل مع الجميع من الفريقين، فلا إيمييه بات قادراً على تلبس دور ومهمة تناقض سبب مجيئه الى لبنان، ولا فيلتمان يقدر على انتزاع ثقة غالبية قوى المعارضة، ولا السفير الايراني يقدر على انتزاع ثقة غالبية قوى السلطة، أما خوجة فهو يعتمد أسلوباً يتيح له البقاء على اتصال بالجميع، وهو يحاول رفد خطواته بكثير من الكلام عن تأييد وتفهم من القوى العالمية لأهمية التوصل الى حل ينفس الاحتقان الموجود في لبنان.
وبرغم أن السفير الأميركي يحرص على تقديم صورة مختلفة عن «قوى الوصاية» التي يعرفها اللبنانيون منذ قيام الدولة حتى الآن، فإنه يعمد إلى تفقد رجاله بدل استدعائهم طوال الوقت الى مكتبه، لكن مقابل خدمات مسبقة، فيتقصد الزيارة بعد إطلاق هؤلاء للتصريحات التي تؤدّي غرضها، وهو يعتقد بأن في هذا الأسلوب ما يمنع ضبطه متلبساً بجرم التحريض. وهو أصلاً غير مهتم بذلك. وهو ما حصل مع كل من جنبلاط وجعجع وآخرين من الصف الثاني من قادة 14 آذار. وعندما قام قادة من المعارضة بمراجعة السفير السعودي عن خلفية هذه المواقف وعن حقيقة الموقف الاميركي يأتي الجواب بأن واشنطن في أجواء ما نقوم به وهي داعمة، ثم يحصل التواصل بين السعوديين والاميركيين، علماً بأن فيلتمان كلف دبلوماسياً عنده بمهمة التشاور المفتوح مع السفير السعودي، ما يشير الى قلة اكتراثه بالمبادرة من أصلها، بينما هو مشغول في انتظار جهوزية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة لطلب دعم نوعي وإقرار خطة الانتشارالدولي على طول الحدود مع سوريا وتوفير قواعد لوجستية في مطاري القليعات ورياق، شرط أن يتم الانتهاء من «عملية تنظيف» محيط هذين المكانين من «المتطرفين التابعين لفكرة القاعدة ولقرارات سوريا» على ما يقول دبلوماسي غربي متابع. وثمة وقت إضافي يحتاج إليه فيلتمان وهو يتابع جهود صديقه وزير الدفاع الياس المر الذي غاب عن السمع أخيراً بعدما كان شديد الحماسة للحسم بعد اندلاع مواجهات نهر البارد.
ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، إذ إن النقاش مع الجانب الأميركي حول الملف الحكومي وربطه بالملف الرئاسي، ينطلق من كلام عن أن واشنطن لا ترى الوقت مناسباً لحسم النقاش حول هاتين المسألتين الآن، ويحذر فيلتمان الأصدقاء من الحلفاء من خطورة الخضوع لضغط المعارضة ولضغط الاحداث، وهو يستخدم عبارات سرعان ما تظهر في تصريحات رجاله عن الابتزاز والشروط المسبقة وخلاف ذلك من كلام يعني أمراً واحداً: أن الظرف غير مؤات لتسوية عنوانها التغيير الحكومي... وإذا ما حشره محنّك مثل نبيه بري يبتسم ويجيب: أنا نفسي لا أعرف ماذا يريد هؤلاء الآن؟
ومع ذلك فإن فيلتمان لا تعوزه الحجج التي ينبغي تقديمها كمحفزات لانطلاق معارضة من فريق الموالاة لمشاريع التسوية، ولا سيما أنه مقتنع بأن أي تسوية تقوم على قاعدة التمثيل النسبي تعني تراجعاً قوياً لحضور قوى مثل «القوات اللبنانية» ومسيحيي 14 آذار وذلك لمصلحة المعارضة، ثم إنه يتحدث بلغة الاشارة وحركة الشفاه عن احتمال وجود اصوات في اوروبا لا تمانع مناقشة احتمال دعم ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة في اطار البحث عن شريك قوي له تمثيله المسيحي الجدي وله صلاته القوية المطلوبة لإدارة حوار لاحق مع حزب الله وبقية حلفاء سوريا في لبنان. وهو في هذا الامر ينهي ما بقي من صواب عند مسيحيي 14 آذار من الذين يعتقدون ان استمرار الحال على ما هو عليه يتيح لهم الوصول الى انتخاب رئيس من طرف واحد ويتحول بسرعة الى امر واقع، وأن بقاء الوضع الحكومي على حاله ليس مشكلة ما دامت القرارات المالية والأمنية خاضعة لسلطة 14 آذار.
وربما يظهر في هذا السياق أن التوتر لدى فريق 14 آذار من الاتصالات التي يجريها الموفد الفرنسي في بيروت، قد لامس حدوداً مثيرة للسخرية، من نوع أن الوزير مروان حمادة الذي يعد صديقاً للوزير كوشنير والذي وجد في اختياره وزيراً للخارجية مدخلاً قوياً الى الحكم الجديد هناك، لم تمر عليه أيام قليلة حتى بات يتذمر ويتحدث عن «النقص في الخبرة» وخلافه من التوصيف الذي ينتهي عند ما ردده جنبلاط تهكماً في البداية بقوله إنه لم يسمع بأي مبادرات. ثم يتراجع بشيء من اللياقة نحو بحث لا ينتهي الى شيء، سوى الى القول إنه يفكر في من سينتدبه للقاء باريس، لكن على خلفية أن من سيقع عليه الاختيار سوف يكون معاقباً لا مكرماً منه. أما وسائل الاعلام التي تقع تحت نفوذ جنبلاط فقررت تجاهل الأمر برمته بدل الحملة التي قد تفتح الباب على ما هو غير مرغوب الآن.
ومع ذلك فإن المساعي مستمرة، وثمة تفاؤل قوي عند السفير السعودي وحذر أقوى عند قادة المعارضة وتوتر يرتفع الى أعلى عند من بدأ يشعر بأنه يقترب من لحظة الحقيقة الفعلية التي تقول: ولّى زمن «السلبطة» على عقول الناس.