نقولا ناصيف
تقدّم اغتيال النائب وليد عيدو أمس ما عداه في السجال الداخلي الذي يضاعف يوماً بعد آخر المأزق السياسي. لكنّ الأبرز في ما رافق زيارة الموفد الفرنسي السفير والرئيس السابق للإدارة العامة للأمن الخارجي جان كلود كوسران لبيروت، هو ما كشفته مصادر دبلوماسية واسعة الاطّلاع من أنه سيتوجّه إلى دمشق في الساعات المقبلة، على أن يلتقي نائب الرئيس السوري فاروق الشرع ووزير الخارجية وليد المعلم يوم السبت. وهو الاتصال الأوّل بين باريس ودمشق على هذا المستوى الدبلوماسي منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. كذلك الاتصال الأول بين إدارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والقيادة
السورية.
واستناداً إلى المصادر الدبلوماسية نفسها، فإن زيارة كوسران لدمشق تتصل بمؤشرات لعل
أبرزها:
1 ـــــ أنه يتوجّه إلى دمشق من باريس خلافاً لتقليد كان قد اتّبعه مسؤولون دوليون وموفدون دبلوماسيون قصدوا سوريا من لبنان أو العكس نظراً إلى الصلة المباشرة لملفات المحادثات التي كانوا يحملونها، وترتبط بوطأة العلاقة بين البلدين. تالياً لم يشأ كوسران أن تكون زيارته هذه محطة في سياق جولة، بل هدفاً في
ذاتها.
2 ـــــ لا تنفصل مهمة الموفد الفرنسي في دمشق عن زيارته الأخيرة لبيروت (10 حزيران)، وهي البحث في سبل توفير المناخات الملائمة لحوار لبناني ـــــــ لبناني يعيد بناء الثقة بين الأفرقاء المحليين. إلا أن الوجه الآخر من زيارة دمشق هو الخوض في العلاقات الفرنسية ـ السورية التي شهدت في السنتين الأخيرتين تدهوراً كبيراً، ولكن من غير أن تنقطع تماماً. ومع أن لا سفير سورياً في باريس مذ انتهت مدة انتداب السفيرة صبا ناصر قبل عامين، فقد عينّت فرنسا قبل ثلاثة أشهر سفيراً جديداً لها في العاصمة السورية هو ميشال دوكلو، خلفاً للسفير السابق جان فرنسوا جيرو الذي كان قد شغل المنصب منذ 14 أيلول
2002.
ولعلّ المغزى الرئيسي لزيارة دمشق أنها ترمي إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية في مستهل حكم ساركوزي، من دون أن تتجاوز هذه ثوابت الموقف الفرنسي من سيادة لبنان واستقلاله وحرية قراره، الأمر الذي يحمل المصادر الدبلوماسية على الاعتقاد بأن دمشق ربما لاقت الانفتاح الفرنسي الجديد بتعيينها سفيراً جديداً لها في باريس. ومن دون مغالاة في ما يمكن أن يسفر عنه الحوار الفرنسي ــــــ السوري في المرحلة المقبلة ــــــ وقد لا يكون بالضرورة في عجلة من أمره بالنسبة إلى الفرنسيين على الأقل ـــــــ فإن التعاون الأمني بين أجهزة استخبارات البلدين في ملفات الإرهاب وتبادل المعلومات لم يتوقف، مما حمل جهاز مكافحة الإرهاب في الاستخبارات الفرنسية على الضغط على الدبلوماسية الشيراكية في الفترة المنصرمة لتسهيل عملها بمعزل عن تردي العلاقات السياسية بين
البلدين.
بيد أن لزيارة كوسران بُعداً آخر هو عزم إدارة ساركوزي على الطلاق مع الشيراكية بانتهاج دور دبلوماسي جديد في المنطقة. الأمر الذي يعكس، في رأي المصادر الدبلوماسية ذاتها، اتجاهاً إلى استعادة السياسة التقليدية التي اتّبعتها فرنسا لعقود خلت حيال دول المنطقة انطلاقاً من اعترافها بأدوار هذه الدول في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
وفي واقع الحال فإن ثوابت الموقف الفرنسي من لبنان ليست من صنع الشيراكية. فضلاً عن أن ما نُسِب في وقت سابق إلى الرئيس الفرنسي الحالي من أنه ليس ديغولياً، ولا هو ملتزم خيارات سلفه في إدارة الحكم والسياسة الخارجية، يمثّل دينامية جديدة يريد انتهاجها في علاقته بدول المنطقة.
وهذا ما عبّر عنه لقاء كوسران الثلثاء الفائت بمسؤول العلاقات الدولية في حزب الله السيد نواف الموسوي. ورغم أن الموفد الفرنسي خرج بانطباع إيجابي هو الاستعداد المبدئي للحزب للمشاركة في مؤتمر باريس اللبناني، في انتظار إطلاعه على ترتيبات المؤتمر وإدارته، فإن الخلاصة التي خرجت بها المصادر الدبلوماسية من اللقاء أظهرت أن المقصود تبديد صورة مقلقة عن ساركوزي الذي غالباً ما اتخذ قبل وصوله إلى الرئاسة الفرنسية مواقف مناهضة لحزب الله واتهمه مراراً بالإرهاب. والأحرى أن موقف التصلّب هذا خبره ساركوزي وهو في وزارة الداخلية حيث كان عليه مواجهة حملات مشابهة.
أضـــف أن فريق العمل الذي لزمه في وزارة الداخلية انتقل معه إلى الإليزيه. بيد أن جوانب الحوار بين كوسران والموسوي عكست مناخاً مختلفاً وأكثر انفتاحاً، وخصوصاً أن السفارة الفرنسية في بيروت لم تنقطع عن محاورة
الحزب.
3 ــــ طبعت المشاورات والاتصالات التي أجراها الموفد الفرنسي في بيروت شخصيته المخضرمة في العمل الدبلوماسي. فهو يجمع، بحسب خبرته المتشعبة، أبعاداً فلسطينية وعربية وإسلامية وإيرانية بحكم عمله في مناصب تنقلت بين القدس والقاهرة ودمشق وأنقرة وطهران، إلى بيروت التي كان قد بدأ بها حياته الدبلوماسية. إضافة إلى عمله في مكاتب وزراء الخارجية الفرنسيين المتعاقبين في حقبة ثمانينات القرن الفائت، إبان الحرب اللبنانية، حين أسهم في إدارة جانب من الملف اللبناني الشائك، وخصوصاً الرهائن الأجانب وتطبيع العلاقات مع سوريا حينذاك، بالتعاون مع مدير الخارجية الفرنسية
فرنسوا شير.