جان عزيز
إذا كان الاستحقاق الرئاسي المقبل هو المحور الفعلي لكل الحسابات الدائرة حالياً في شأن الحكومة والضمانات والملفات الخلافية، فإن العلاقة بين بكركي والزعامة السياسية المسيحية في لبنان، هي في العمق، جوهر مقاربة هذا الاستحقاق ومعيار احتمالاته واتجاهاته الممكنة.
ذلك أن اللعبة السياسية اللبنانية اليوم، في موضوع الاستحقاق الرئاسي، باتت محكومة برهان واحد مزدوج ومتناقض. فريق السلطة يراهن على موقف بطريركي يصدر في «الوقت المناسب»، ويدعو النواب المسيحيين صراحة ومباشرة إلى المشاركة في جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وفريق المعارضة يراهن على بقاء بكركي خارج هذا المنزلق، بما لا يبدّل في موازين القوى الراهنة. مسيحيو السلطة يراهنون على بكركي واتصالاتهم و«مقدّرات» حلفائهم في الداخل وضغوط عرّابيهم في الخارج، من أجل قضم ما يلزمهم من نواب معارضين لاستكمال النصاب. ومسيحيو المعارضة يراهنون على التزامهم الاتجاه الشعبي للمزاج المسيحي، الذي يرون أنه رافض اختيار رئيس لا يملك قاعدة مسيحية واسعة.
والأهم أن فريق السلطة يراهن على دور لبكركي، بالكلام أو بالصمت، يزكّي رئيساً من دون قاعدة، وفريق المعارضة يراهن على العكس.
في صلب الرهان المزدوج هذا تقع إشكالية العلاقة بين الزعامتين الروحية والسياسية للمسيحيين في لبنان، والموارنة منهم خصوصاً.
الإشكالية هذه، قديمة. حتى إن أحد أبرز السياسيين المؤرخين، يجد بدايتها ملازمة لولادة الكيان مع الإمارة. وهو تلازم صدامي متفجّر مذذاك. «وإلاّ فمَن غير الإكليروس الماروني نظّر لطانيوس شاهين غير المتعلّم، في مواجهة الزعامة السياسية المتمثّلة في الإقطاع يومها».
وحدها ربما حقبة ولادة الدولة، في عشرينات القرن الماضي، خلت من هذه الازدواجية النزاعية. اختصر البطريرك الياس الحويك الدورين، وأوجد لبنان. بعده عادت الإشكالية كما كانت في البدء. رغم أن الإكليروس تفاعل لاحقاً مع طبقة الإقطاع السياسي، ودخل فيه وتداخل معه، ظلّ تنافس الزعامتين كامناً أحياناً، ظاهراً حيناً، ومعروفاً دوماً.
حتى إن عبارة «إطلاع العشب على درج بكركي» رافقت معظم عهود الاستقلال، مع تمايزات في الحدة والعلنية لا غير. بعد اندلاع الحرب، صارت لغة الازدواجية أكثر عنفاً وعداءً. حتى إن أدبيات التخاطب بين بكركي وزعامات الحرب من المسيحيين، حفلت بكل أنواع الكلام الكبير.
ما هي أسباب هذه الإشكالية؟ كثيرة هي تأويلاتها والقراءات. البعض يراها من ضمن أثمان «الحرية المسيحية». بعض آخر يصنّفها في سياق جدلية الديني والدنيوي المشوّهة في بعض الفكر الإنجيلي. بعض ثالث يراها من ضمن ثنائية التنظيم الكياني للأقليات الشرق أوسطية، التي واجهت مركزية السلطة السنّية في «دار الإسلام»، وفق مفهوم فؤاد إسحق الخوري، في بحثه ــــــ المرجع، «إمامة الشهيد وإمامة البطل».
المهم أن الثنائية استمرت ضمن ضوابط ذاتية وموضوعية حتى سنة 1989. مع استحقاق الطائف ووسط الفراغ الرئاسي حينذاك، تحوّلت هذه الثنائية انقساماً انقلاعياً في الوجدان والممارسة. زعامة سياسية تواليها أكثرية المسيحيين في اتجاه. وزعامة روحية ترفض الخروج من الاصطفافات الغربية، في اتجاه آخر. يومذاك نجح الغرب في رهانه. أخذت واشنطن بكركي إلى جهتها، وتركت خلافات المسيحيين وعداء دمشق لهم، يتكفلان بالباقي. هكذا دخلت بكركي الطائف مع رينيه معوض، فأفاقت لتجد نفسها مع الياس الهراوي والدبابات السورية تجتاح مناطقها. انتصر دور الزعامة الروحية مضافاً إليها العامل الأميركي، على دور الزعامة السياسية مضافاً إليها المزاج المسيحي الداخلي. بعد وقت قليل أدركت الزعامتان أن ما حصل لم يكن غير خسارة للجميع. سقطت كل الوعود والعهود والالتزامات، وانتهى الأمر إلى 14 عاماً من الهزائم
المتوالدة.
بعد 18 سنة على الكارثية، يبدو أن ثمة لدى السلطة مَن يراهن على تكرارها. اصطفاف أميركي يقارب بكركي ويستميلها، بهدف تخطي الزعامة المسيحية السياسية والانقلاب على اتجاهات المزاج المسيحي. غير أن سيد الصرح يبدو مدركاً لبعض معالم النفق الجديد، أو الكمين المكرّر. لكنه يضيف إليه معالم أخرى بصورة يراها تخييراً بين أهون الشرور: «لا يمكننا أن نكون ضد الغرب»، يكرّر الختيار أمام محاوريه. «المسيحيون منقسمون»، يردّدها كمَن يبحث عن ذريعة للّاخيار، أو لقرار من دون اقتناع ولا سند شعبي. ويبقى الأهم تلك القراءة البطريركية الخاصة جداً حيال لبنان وجوهره وميثاقه ودور المسيحيين فيه، وبالتالي «جانبية» رئيس الجمهورية الذي يوفّر مقتضيات ذلك كله.
عود على بدء العام 89 إذن؟ كثيرون يراهنون على تخطي المطب. على قاعدة أن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين. وإذا لم يكن المعنيون «مؤمنين»، فعلامَ الحديث عن مسيحيين وزعامات...