إبراهيم الأمين
لن يتوقف حمام الدم هذا. والمشكلة ليست فقط في من هم الذين تقع عليهم قرعة القتل، إذ إنها في الآثار المدمرة خلف قرارات كهذه. والعودة الملحاحة الى السؤال عن هوية المستفيد من هذه الجرائم، تفرض نفسها لمحاولة فهم حقيقة ما يجري، لأن غير ذلك يعني البقاء أسرى لعبة الكراهية العشوائية التي لا تقود الى علاجات حقيقية بل الى المزيد من الفوضى التي ابتدعتها، بفخر، الإدارة الأميركية.
فريق الموالاة يصر على أن سوريا هي التي تقتل، وهو يشطح في موقفه الى اتهام من لا يجاريه سياسياً بأنه شريك ولو غير مباشر في الجريمة، ثم يتطور الموقف الى حدود الانفعال الذي يتميّز به وليد جنبلاط حتى يتهم قوى من المعارضة بتقديم تسهيلات للمجرمين. وفي لحظة معينة يرتفع منسوب التعبئة حتى يلامس حدود قناعة الجمهور بأن من يعارض فريق 14 آذار في لبنان هو من يقتل ويفجر. وإذا ما برزت معطيات عن أدوار لجهات استخبارية خارجية ونفوذ داخل مجموعات متشددة تتورط في جرائم متنوعة منذ زمن بعيد، فإن الكلام يعود الى قاعدته الأمنية ـــــ السياسية، من باب أن سوريا هي التي تقف خلف هذه المجموعات وتحركها، ما يعني أنه لا طائل من النقاش في أبعاد هذا الأمر. فإذا أصر البعض على انتظار المعطيات القضائية وخلاف ذلك، يكون الجواب سياسياً، وإذا ما وصلت المعطيات القضائية الى شيء ما يبقى الجواب سياسياً. وهذا ما يسمّى في العلم السياسي «الدائرة المقفلة»!
وبعد، فهل من مخرج؟
الواضح أن فريق 14 آذار دخل مرحلة الخروج العلني عن الحاجة الى توافق داخلي لضبط الوضع عموماً، الى مرحلة الاستنجاد العلني والمباشر بكل أنواع الوصاية الخارجية. ولا بأس هنا من العودة الى ما قيل عن لسان هؤلاء خلال الأيام القليلة الماضية، أو أمس على اثر الجريمة الارهابية التي أودت بنائب بيروت وليد عيدو.
قال الياس عطا الله إنها معركة وإنه خيار وإن له أثماناً، وإن فريق 14 آذار لا يناور بل يخوض هذه المعركة وهو يتبنى بعقل هذا الخيار. ولذلك فإن لعبة الموت معه لن تجدي. ثم يلحقه فارس سعيد من باريس بالقول إن المجتمع الدولي بات مسؤولاً عن حماية القادة السياسيين لفريق 14 آذار، وعلى المجتمع الدولي المبادرة الى خطوة أمنية ــــ عسكرية تحقق هذا المطلب، ثم يكرّر وليد جنبلاط مطلبه بنشر قوات دولية على طول الحدود مع سوريا ولو أدى ذلك الى إقفالها، لكن من أجل تثبيت خيار القطع مع سوريا باعتبارها مصدر الإرهاب في لبنان. ثم يعلن سمير جعجع أن مسألة السلاح الفلسطيني يجب أن تعالج هذه المرة جذرياً بعد انكشاف مخطط نهر البارد، لترد بعدها المعلومات عن طلب فريق 14 آذار من الجيش والقوى الأمنية العمل فوراً على إزالة كل أنواع الوجود الفلسطيني المسلح في الناعمة والبقاع الغربي والشرقي، وطبعاً بالقوة لا بالمفاوضات. والهدنة التي عمل عليها في صيدا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتعقيد الوضع هناك، واستحالة خوض معركة كالتي تقع في الشمال الآن، لكن الكل ينتظر نتائج المواجهات الجارية في فلسطين حتى يقرر الخطوة المقبلة.
من ناحية ثانية، يتجاوز فريق 14 آذار القرار الدولي الذي عمل هو على إصداره، وبات الآن يستعجل إصدار أحكام وفرض عقوبات على سوريا ومتهمين آخرين من قبل الفريق نفسه، حتى قبل قيام المحكمة وقبل صدور التقرير النهائي للجنة التحقيق وقبل صدور القرار الاتهامي في الجريمة، وذلك انطلاقاً من أن العقاب الوقائي بات ضرورياً لأن سوريا تريد مواصلة القتل حتى ولو صدرت المحكمة. وينتهي هذا النوع من التحليل والمنطق الى رفض أي بحث أمني ـــــ قضائي من النوع الذي يحدد عناصر المسؤولية والاتهام، حتى تصبح القوى الامنية خارج مسؤولية كشف المرتكبين أو منعهم من القيام بأعمالهم الاجرامية، وما دام المتهم موجوداً مسبقاً، والضحية موجودة مسبقاً، فلماذا التحقيق ولماذا المحكمة؟
الأمر الثالث يتعلق بمسار السلطة السياسية، إذ إن فريق 14 آذار لا يرفض قيام حكومة وحدة وطنية فحسب، بل يذهب سريعاً نحو انقسام على مستوى المؤسسات الدستورية، وهو وإن كان يتهم الآخرين من رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ووزراء المعارضة ونوابها بتعطيل الدولة، فإنه قرر من طرف واحد إدارة البلاد على طريقته: قرر أولاً إعادة تركيب السلطة، وهو سيتصرف على أساس أن الرئيس إميل لحود موجود فقط في الصورة المرفوعة في المكاتب الرسمية (ما عدا وزارة الاتصالات) ولا وجود أو أثر له، وبالتالي فإنه يمكن إجراء انتخابات فرعية من دون الحاجة الى توقيع على المرسوم وهي سابقة ستقود الى تعيينات ومناقلات إدارية ودبلوماسية ومالية خلال الوقت القصير المقبل. وإذا كانت رئاسة المجلس النيابي مضطرة لتقبل النتائج الرسمية من الحكومة، فإن رفض الرئيس نبيه بري القيام بهذه المهمة الآن، سيجعله هامشياً كما الرئيس لحود برأي فريق 14 آذار، وبالتالي فإن نائبه فريد مكاري سيتلقى كتاب وزارة الداخلية عن الانتخابات الفرعية، وهو من سيدير أعمال المجلس، وترتيب انتخاب خلف للراحل عيدو في لجنة الدفاع والأمن، ثم يتولى دعوة هيئة مكتب مصغرة للمجلس، والاستعداد لدعوة النواب الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبالطبع فإن المقر المفترض للقيام بهذه العمليات هو آخر الهم، علماً بأنه جرى إعداد مقر مؤقت يقع في المربع الأمني الكبير في قريطم.
إلا أن الجديد هو العمل على ربط المساعدات الاقتصادية للبنان بآلية سياسية معينة، من نوع الاتصالات الجارية مع عدد من الدول العربية التي سمعت كلاماً يدعوها الى حصر أي نوع من المساعدات برئاسة مجلس الوزراء لا بالمؤسسات المالية العامة، كما هي حال المساعدات التي أتت لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي على لبنان، ثم إخضاع الجيش لاختبار قوة جديد ربطاً بآلية من المساعدات العسكرية الأميركية المصدر والعربية الطريق، وهو الاختبار الذي يراد منه دفع الجيش الى موقع سياسي داخلي على قاعدة أنه يجب على قيادته مراجعة مواقف القوى خلال مواجهات نهر البارد، واكتشاف من كان معه ومن كان بعيداً عنه، واعتبار كل من تحفظ على العمليات العسكرية أو اعترض على بعض الإجراءات بمثابة الخائن ويجب مقاطعته ومعاقبته، وهو الأمر الذي لا يبدو أنه قد دخل عقل قيادة الجيش برغم كل الظروف الصعبة التي تمر بها.
لكن الاخطر من كل ذلك، هو انتقال الكلام الساخن هذه المرة من القادة السياسيين الى القادة الدينيين، والكلام الذي قاله مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني في تشييع عيدو ونجله ومرافقه يمثل نقطة التحول الخطيرة هذه. وإذا لم يجر الانتباه سريعاً الى خطورة اعتماد التعبئة على هذا المستوى، فإن الفتنة التي هي أشد من القتل ستكون الحاضر الأكبر في بلاد يمزقها الغباء والتعنت والتآمر!