جان عزيز
يجزم سفير الإدارة الأميركية الحالية في بيروت، جيفري فيلتمان، أن «الذين قُتلوا أو كانوا عُرضة لمحاولات القتل» في لبنان في العامين الماضيين، هم أصحاب «الالتزام بحرية لبنان ووحدته، والالتزام بإنهاء زمن التلاعب والسيطرة السورية على لبنان».
ويطلق فيلتمان جزمه هذا على خلفية وقائعية، هي اغتيال النائب وليد عيدو، كما على خلفية تحليلية، هي الاعتقاد بالمبدأ اللبناني القائل إن حرمة الموت تمحو كل ما سبقه.
غير أن دقة الوضع اللبناني، عشية الاغتيال الأخير، وخصوصاً ما بات يحضّر لما بعده من نتائج وتداعيات، تقتضي التدقيق أكثر في كلام السفير الأميركي، على قاعدة حرمة الموت، بالتلازم مع حرمة الحقيقة، وبالتحديد في المسائل التي تتعلّق بفيلتمان وإدارته ولبنان وسيادته.
فالنائب الراحل وليد عيدو، الواصل إلى البرلمان اللبناني عبر انتخابات عام 2000، في ظل قانون الحريري ــــــ كنعان الشهير، لم يخرج عن سرب رئيس الحكومة الراحل. وهو السرب الذي اشتهر صيته يوم جمعه الحريري ذات مرة قائلاً: «أنا أعرف أن كل كلمة أقولها هنا، ستصل إلى عنجر ودمشق 18 مرة». وكان عدد الحاضرين عندئذ 17 نائباً، وكان الحريري نفسه الثامن عشر.
وبمعزل عن الروايات المنسوجة عن علاقات مميزة بين النائب الراحل والعديد من النافذين آنذاك، فإن تصاريحه ومواقفه الإعلامية تكفي لتحديد اقتناعاته.
فعشية الحرب الأميركية على العراق مثلاً، أعلن عيدو في 1 نيسان 2003، أن «ليت كل الحكام العرب يفهمون أن التهديد الأميركي لسوريا هو تهديد لهم، حتى السائرين في الركب الأميركي. فهذه الغطرسة ستأخذ مداها كاملاً إذا حقّق الأميركيون نجاحاً في العراق، وهم ليسوا أكثر من قيادات كرتونية على شعوبهم». وأضاف «إننا معنيون بالتهديد الإسرائيلي لسوريا، لأننا في موقع واحد وسياسة قومية واحدة».
ومع سقوط بغداد، كان عيدو ضمن اللجنة النيابية اللبنانية للشؤون الخارجية، «ناطقاً» باسمها، يعلن تثمين «الموقف السوري لأنه الموقف العربي الشعبي الحقيقي الذي يقف إلى جانب الحق والشرعية الدولية»، داعياً باسم اللجنة «إلى الوقوف إلى جانب سوريا»، ومعتبراً أن «التهديدات الأميركية تطال بدورها لبنان».
وفي اليوم نفسه، 8 نيسان 2003، أكد النائب الراحل أن استشهاد الصحافة في بغداد هو استشهاد للديموقراطية الأميركية الموعودة، والتي لم نصدق يوماً أنها قادمة إلينا كما يدّعون»، مؤكداً «أن مقاومة أهلنا في العراق ستعلّم المتغطرسين أن غطرستهم لن تؤدي إلى سيطرتهم مهما طال الزمن».
وغزرت تصاريح عيدو يومئذ، فتساءل في 10 نيسان «عمّا إذا كانت هناك صفقة بين صدام حسين وقوات الغزو الأميركي، أدت إلى سقوط بغداد».
وفي تلك الفترة خرجت فرنسا على لسان وزير خارجيتها دومينيك دوفيلبان بكلام عن القرار 520، فانبرى له عيدو في 30 نيسان مؤكداً أن الوجود السوري في لبنان «موضوع لبناني ــــــ سوري محض، وليس مطروحاً على النقاش الدولي، بل هو حالة يجري البحث فيها بين لبنان وسوريا مباشرة، من دون أي دور لأي طرف آخر».
وفي ذروة الصراع الأميركي ــــــ السوري الناشب يومذاك، لم يكن النائب الراحل ليغفل أي تفصيل. فعندما وافقت دمشق على نقل البحص إلى لبنان، أكد عيدو في 20 تموز 2003 «أن سوريا الشعب والدولة والقيادة عوّدتنا أن تكون إلى جانب الشعب اللبناني، وما هذه الخطوة إلاّ ترجمة صادقة للعاطفة السورية تجاه لبنان».
بعد أسابيع على إشادة البحص تلك ذهب ميشال عون إلى واشنطن ليلقي كلمة أمام الكونغرس الأميركي في 16 أيلول 2003، مطالباً بانسحاب الجيش السوري من لبنان. فرد عليه عيدو بعد أقل من يومين، ومن مجلس النواب بالذات، رافضاً كل ما نطق به عون. وفي 24 أيلول أيّد عيدو ادّعاء عدنان عضوم على عون، معتبراً «أن الجرائم ثابتة في حقه، وتقتضي محاكمته بسرعة وبصورة غيابية ليكون عبرة لبعض المجرمين في الإطار الوطني ولبعض المراهنين على الخارج والذين يسعون إلى الاستقواء بالخارج لتقويض الوحدة الوطنية».
وتابع النائب الراحل هذا الملف عن كثب. فعندما استغرب سلف جيفري فيلتمان، فنسنت باتل، الادعاء على عون، ردّ عليه عيدو في 2 تشرين الأول، بتذكيره بأن «أحداً لم يعيّنه وصيّاً على اللبنانيين أو وليّاً على حركتهم أو مرشداً لهم». قبل أن يفصّل في 14 تشرين الأول، أن قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة هو «اعتداء سياسي يمثّل الوجه الآخر للاعتداء العسكري الإسرائيلي على سوريا وكل العرب».
ورأى أن الرد عليه يجب أن يكون التضامن «مع سوريا التي تمنع الانهيار العربي الكامل». وبعد أشهر، عندما تحركت الجهات المدافعة عن حقوق الإنسان في وجه النظام السوري أكد النائب الراحل في 10 آذار 2004 أن هذه الحركة «بذريعة حقوق الإنسان، إنما هي تحرك موحى به ومدعوم من الخارج، للضغط على سوريا». متهماً واشنطن بذلك مباشرة.
قبل صدور القرار السوري بالتمديد لإميل لحود، كان النائب الراحل على اعتقاده «بأن سوريا ستأخذ في الاعتبار المواقف التي عبّرت عن أملها في التغيير». لكنه أكد في 15 تموز 2004 أن العلاقة بسوريا «أكثر من عميقة وممتازة»، وأن فريق رفيق الحريري «مستعد للتجاوب مع أي مشروع يمثّل مصلحة لسوريا».
خيّبت دمشق الآمال والاعتقاد. فكرّت سبحة الاغتيالات، ومواقف فيلتمان. وسط الدم البريء، البعض يعتقد أن الموت يجب أن يمحو الذاكرة، لكن ثمة من يؤمن بأن محو الذاكرة هو الموت بنفسه.