strong>اعداد:رنا حايك تصوير:مروان طحطح
  • صيادة السمك الوحيدة في بيروت تكشف وجهاً آخر للمرأة


  • لا تعرف صابيرة عيتاني شيئاً عن حقوق المرأة ومطالب الجمعيات النسائية بالمساواة. لكنها، ومنذ نعومة أظافرها، مارست هذه المساواة: منذ تركت المدرسة لتساعد أباها في مزرعته في الدالية بعد وفاة أمها، وصولاً إلى حمل شباك الصيد ذات صباح لتطعم أطفالها الثلاثة

    «هل يجب أن تصوّروني؟ سأبدو سوداء في الصورة». عبارة تبدو خارجة عن السياق العام لمقابلة مع امرأة من نوع آخر لا تعرفه «الجماهير» العريضة، امرأة تصيد السمك في بيروت لتعيل أطفالها بعدما فقدت زوجها منذ 12 عاماً.
    هي ليست سوداء البشرة، ففي زاوية آمنة من ميناء الدالية، تزيح صابيرة الحجاب الذي يغطّي شعرها وجزءاً من الخدّين ليسطع بياض البشرة المحجوبة وتقول «أنا شقراء أصلاً، لكنها شمس البحر تكويني منذ أربعين عاماً...».
    صابيرة عيتاني هي المرأة الوحيدة التي تزاول مهنة الصيد في بيروت. تضيع خلال الحديث معها معالم الأنثى المتعارف عليها اليوم. بين قساوة المهنة وتضحيات الأمومة، تنسحب المرأة فيها تدريجاً رضوخاً لواقع اقتصادي واجتماعي يفرض خشونة لا تستقيم حياة الأسرة من دونها.
    تعيش صابيرة في «مينا الدالية»، فلم تحضر يوماً مؤتمراً يناقش قضية مساواة المرأة بالرجل، ولم تنضمّ إلى جمعية نسائية «تنظّر» عضواتها في حقوق المرأة ويطالبن بها قبل أن تعدن مساء إلى البيت لتحضير وجبة العشاء لـ«ربّ المنزل». لم تسمع صابيرة بذلك كله، لكنها تمارسه يومياً منذ نعومة أظافرها: حين تركت المدرسة لتساعد أباها في مزرعته في الدالية بعد وفاة أمها، وحين قفزت عن صخرة الروشة أمام تشجيع أبناء المينا لها وهي في الرابعة عشرة من عمرها. ثم، بعدما مات زوجها، حين حملت على كتفها شباكاً يزيد وزنها على 8 كيلوغرامات وطرحتها في الماء ذات صباح، لتطعم أطفالها الثلاثةولدت صابيرة عام 1962، في الدالية، وسط عائلة تضمّ ثمانية أبناء. فتحت عينيها على زرقة البحر وخضرة المزرعة التي كان يملكها والدها. ارتادت المدرسة لكنها ما لبثت أن تركتها عام 1975 حين ماتت والدتها، وتفرّغت لمساعدة الأب والعمل قليلاً بالتطريز.
    ربّت الدواجن وباعت الحليب إلى أن تزوجت عام 1979. أحبته وأحبها، وكان صياداً ساعدته في عمله، فنظّفت السمك وباعته للزبائن. «سرَحَت» معه في القارب ونصبت الشباك وتعلّمت أصول مهنة لم تكن غريبة عن جوّها في الأساس. أحبت البحر كثيراً وأحبت عبد الله فأنجبت منه سعد وهنادي ونسرين وقضت معه ستة عشر عاماً.
    تتذكر صابيرة مرحلة «نعيمها» تلك بحسرة والدمع يطفر من عينيها. حسرة بدأت تندسّ في حياتها منذ 2 تموز 1995، وتتفاقم لتفترس كل أمل في استعادة لحظة جميلة، فـ«بعد موت عبد الله، لم يعد للحياة معنى». عبد الله الذي مزّقته شفرات محرك القارب «لم نعرف هوية سائقه حتى الآن، ولا نعرف سوى استهتاره وحبّه للهو تحت شمس الصيف».
    ذلك اليوم، كانت تقف على الشاطئ. رأت ما حدث لزوجها فصرخت، لم يصدّقها الصيادون في بادئ الأمر، لكنهم تأكدوا بعدما انتشلوا جثة عبد الله أشلاء. ينهمر الدمع غزيراً من عينيها وهي تستعيد تلك اللحظة: «انقلبت حياتي رأساً على عقب خلال ثوانٍ. أقفلت باب بيتي عليّ وانعزلت. أهملت الأطفال وفكرت بإضرام النار بنفسي وبالمنزللكن الاستسلام انهزم أمام قوة العزيمة، فقد اختارت صابيرة أن تقف وتواجه. ضمّت أبناءها إلى صدرها وقرّرت أن تعيش. حملت أقفاص السمك، ونزلت إلى البحر الذي كرهته بعدما انتزع منها حياتها، فهو لم يعد قصيدة زرقاء ولا لحظة صفاء عند الغروب، بل أصبح مجرد أداة لكسب الرزق.
    عملت على تعويض أبنائها ما حرمت منه، فعلّمتهم إلى أن قرّروا بأنفسهم عدم دخول الجامعة. خافت عليهم من البحر، لكن سعد عاد إليه بعد رعب سبّبه موت أبيه. يومها ألقى به خاله في الماء بعدما سمعه يقول إنه لن ينزل حتى لا يموت مثل أبيه، «انكسرت العقدة» وأصبح سعد صياداً مثل أبيه وأمه.
    أصبحت صابيرة «جسر المنزل»، كما تسمي نفسها. الجميع يحبونها ويحتمون بقوتها. تتمشى بين أهلها وزملائها في المينا التي تعرف كل تفاصيلها وتحفظ كل زاوية فيها. يمازحونها ويدلّلونها ويهابونها في الوقت نفسه. تلاعبهم وتمازحهم وتدلّلهم، تلعب معهم في الماء لعبة «التدفيش»، لكن تحافظ على هيبتها، فتسدّد نظرات مستنكرة لأخيها علي وهو يقاطع حديثها وتشير إليه بالسكوت. تظل تردد خلال الحديث أن «لا أحد يساعد أحداً»، وأنها تعتمد على نفسها لتعيل أسرتها، بينما تلبّي من وقت إلى آخر ذكورية أخيها حين يصرّ على إقحام نفسه مشيداً بكونه دائم الحضور في حياتها لمساعدتها، فتحيّيه شريكاً لها في قاربهما المشترك «فانكالوزا». يهمس أخوها علي: «هي لم تكن هكذا دوماً، كانت جميلة، شعرها أشقر وترتدي الجينز ويهيم بها الجميع في المينا».
    لكن صابيرة لم تعد تلك الفتاة الرشيقة التي تداعب نسمات البحر ضفائرها الشقراء. هي محجّبة الآن، وممتلئة الجسم. قررت أن ترتدي الحجاب بعد وفاة زوجها، عام 1996، لأن الحجاب «سترة»، كما تقول، وهكذا «أنسبعيناها الخضراوان لا تجفان من دموع تترقرق باستمرار على طرف الجفن، كأنها على استعداد دائم للانهمار. أما يداها المشقّقتان من تنظيف السمك ولدغات السلاطعين، فقد اخشوشنتا واسودّتا. تنظر إليهما بحياء، تفردهما وتسألني: «هل هاتان يدا امرأة؟».
    تدرك صابيرة أن حياتها كامرأة انتهت بعد وفاة الزوج، واقتصرت اهتماماتها على العمل بكدّ لإطعام أسرتها. هي تتأرجح طوال الوقت بين واقع فرض عليها الخشونة، وأنوثة اقتصرت تجلّياتها على إظهار حضور الذكر من أخ أو ابن في حياتها انصياعاً لتراث تربوي يفرض هذه الصيغة. فأخوها لا يفارقها حين تنزل البحر في الثانية بعد منتصف الليل لتقطف الحشيش وتضعه في الأقفاص، أو لتجول بقاربها وتفرد الشباك. أما في النهار فهي تتحرك وحيدة، تصطاد السمك وتقود السيارة إلى منطقة الزهراني لتبيعه هناك، أو لتوزّعه على المحال وعلى بيوت الزبائن. اتّكلت على ابنتها لإدارة المنزل والطبخ والتنظيف، واقتصرت علاقاتها بجاراتها على تحية المساء المقتضبة، فهي ليست مثلهن تماماً على رغم أنها لا تختلف عنهن كثيراً. هي «آخر» مقبول لكن مستهجن بعض الشيء.
    فتحت لها الظروف الاقتصادية التي فُرضَت عليها باباً وحيداً لكسر المحرّمات: باب الاستقلالية المادية. فخرقته وأرفقت تحررها بسيجارة ظهرت إلى العلن بعدما كانت تدخّنها في السر. لكنها أهملت الأبواب الأخرى. فهي ليست معركتها، ولا تدخل ضمن نطاق اهتماماتها. في هذا الإطار، تصبح صابيرة نموذجاً حيّاً لقدرات النساء المكبوتة التي لا يعترف الذكور بها إلا عند الحاجة. هو تحرّر غير مقصود، تحقّق تحت وطأة الظروف وتنقصه بعض التوعية ليكتمل. فهلّا تلتفت الجمعيات النسائية ذات التنظيرات الطنّانة إلى يديّ صابيرة والكثيرات غيرها ممن يتكلّمن قليلاً ويقدّمن الكثير لقضية المرأة من دون أن يدركن؟