strong> عساف أبو رحال
  • الأهالي نقلوا نفوسهم إلى قرى أخرى ما حرم بلدتهم «هبات» السياسيين الانتخابية

  • لا شيء يربط أهالي قرية الدحيرجات (قضاء حاصبيا)
    بالدولة اللبنانية. أبناؤها لم يعرفوا يوماً مدرسة أو مستوصفاً أو حتى مخفراً، وغالبيتهم نقلت نفوسها إلى قرى وبلدات في البقاعين الأوسط والغربي، ما أبعدهم عن المرجعيات السياسية التي قد تمنّ عليهم ولو بتحسين طرقات القرى أو إعادة بناء
    بيوتهم المهدمة


    قرية الدحيرجات الواقعة عند أطراف العرقوب السفلى هي آخر قرية في قضاء حاصبيا من الناحية الجغرافية، لكنّها الأولى في الجنوب التي دفعت مبكراً فاتورة الحرب مع قوات الاحتلال الإسرائيلي. فقد انطلقت منها الشرارة الأولى للمقاومة الفلسطينية عام 1969 وسقط العشرات من خيرة أبنائها شهداء، ثم دُفع أهلها إلى هجرها منذ ذاك التاريخ بعدما دمّرها الاحتلال تدميراً كاملاً وحوّل منازلها إلى أطلال.
    تتبع الدحيرجات إدارياً بلدية الماري. بلغ تعداد سكانها في ستينيات القرن الماضي 400 نسمة موزعة على 58 منزلاً، بعضها مبني من الحجر الصلب وذات سطوح ترابية في دلالة إلى حالة الفقر الذي عاشه الأهالي طوال عقود مضت، أما اليوم وبحسب إفادة الأهالي فهناك أكثر من 250 عائلة موزعة على قرى بقاعية تنوي العودة إلى القرية بانتظار إعادة تأهيل البنى التحتية التي تشكل عائقاً أساسياً.
    الوصول إلى البلدة ليس سهلاً بسبب وعورة الطريق، وهي تبعد عن الحدود الدولية نحو ثلاثة كيلومترات، ويمكن الوصول إليها من طريق مثلث سوق الخان ــ راشيا الفخار ــ الماري ــ حلتا، عبر طريق معبّد يضيق تدريجاً كلما جرى التوجّه جنوباً.
    ما إن تصل إلى الدحيرجات حتى تجد أحد معمّريها الشيخ حسين شحادة (75 عاماً) جالساً أمام دارته على أريكة خشبية قديمة قد تكون شاهدة على التبدلات العسكرية التي شهدتها المنطقة. هو أوّل من يستقبل الزائرين بحكم موقع منزله الذي بات محطة يقصدها الإعلاميون لتوافر المعلومات التاريخية لديه وعدم بخله بها على أحد.

    حرمان مزمن

    شأن هذه القرية كبقية القرى والبلدات الجنوبية، لكن ثمة فوارق تميّزها من سائر قرى المنطقة. فهي لم تعرف يوماً مدرسة رسمية أو مركزاً صحياً، وجميع طرقها ترابية تنتظر فرجاً علّه يأتي من هذه الجهة أو تلك، علماً بأن مراجعات عدة قام بها الأهالي لمرجعيات سياسية لم تؤدِّ إلى النتيجة المرجوّة، الأمر الذي يقف حاجزاً أمام عودة الأهالي الذين ما زالوا منتشرين في مناطق لبنانية مختلفة.
    حال الحرمان المزمن الذي يلفّ قرى العرقوب عموماً والدحيرجات خصوصاً، لامست الخط الأحمر في العديد من جوانب الحياة. فالطريق العام الممتد من بلدة الماري حتى المجيدية أُعيد تأهيلها وتزفيتها بعد التحرير، لكنها لم تلحظ قرية الدحيرجات لأسباب قد تكون انتخابية بامتياز، الأمر الذي يشكو منه الأهالي ويجعلهم يخشون الإقامة في قريتهم لصعوبة التنقلات إن لم يكن لاستحالتهايقدم فواز العموري مثلاً عما يعيشونه يومياً: «مع نهاية فصل الشتاء المنصرم، مرض أحد الأهالي ما استدعى نقله الى المستشفى. وبسبب تعذر وصول السيارات الى داخل القرية نقله الأهالي على السلم إلى الطريق العام لمسافة نحو ألف متر ومنه إلى المستشفى حيث وصل جثة هامدة، ليعود إلى قريته بالطريقة نفسها. إننا نرفع الصوت عالياً لأن قريتنا هي الوحيدة في لبنان التي تعاني مثل هذه الأوضاع».
    وتصبّ آراء أهالي القرية في خانة واحدة هي مطالبهم الحياتية المحقة، وخصوصاً بعد سبع سنوات على التحرير. هم يدعون المسؤولين في الدولة إلى زيارتهم والاطلاع على أوضاعهم المعيشية والمشاكل التي تواجهم، وبالتالي العمل على معالجتها قدر الإمكان.

    بداية المعاناة

    يروي الشيخ حسين الأحمد شحادة قصة هذه البلدة مع المعاناة: «نالت هذه القرية نصيبها الوافر من مسلسل الاعتداءات والتهجير والتدمير الذي طال كل شيء ولم يسلم منه ركن دار أو حقل زراعي أو بستان، وذلك منذ عام 1969. وبعد إنجاز التحرير عام 2000، عاد الأهالي إلى أرضهم على أمل إعادة إعمار ما هدمه الاحتلال، لكن مجلس الجنوب لم ينصفنا، وقلّص عدد البيوت التي تستحق تعويضات بعدما أدّت المحسوبيات دورها فكان الانتقاء استنسابياً لا يرتكز على قاعدة ولا يراعي برنامجاً يمكن اعتماده حدّاً أدنى في عملية إعادة إعمار هذه القرية، وكانت النتيجة دفع تعويضات لثلاثين منزلاً من أصل 57 تسلّم أصحابها دفعتين والثالثة ما زالت عالقة من دون معرفة الأسباب، الأمر الذي حال دون إنجاز عمليات البناء، وبالتالي أخّر عودة الأهالي المشتتين هنا وهناك». ويلفت شحادة إلى أن قرية الدحيرجات «تتبع بلدية الماري القريبة منا، لكنها لم تقدّم لنا أية مساعدات وخصوصاً في ما يتعلق بالطرق الداخلية».
    مشكلة أخرى يطرحها عبد الناصر شحادة: «لم تعرف القرية المدرسة الرسمية منذ قيامها. قبل التهجير، كان الأطفال يذهبون الى مدارس الماري وكفرحمام وكفرشوبا. لكن اليوم وبعد إعادة الإعمار الخجولة جداً لم تلحظ الجهات المعنية ضرورة إنشاء مدرسة رسمية تأوي أطفال القرية كخطوة تشجيعية تدفع بالمهجّرين إلى العودة». وتفتقر القرية أيضاً إلى أي مركز صحي، فيقول شحادة «إن موقعنا الجغرافي عند آخر حدود الوطن يتطلب وجود مستوصف صحي للحالات الطارئة ولو يوماً واحداً في الأسبوع، وهذا الأمر لم تعرفه البلدة يوماً ويبدو مستبعداً في الوقت الحاضر»، لافتاً إلى أن «أقرب مركز صحي يبعد من القرية مسافة 20 كيلومتراً».
    أما المشكلة التي تتصدّر لائحة مطالب الأهالي وتشكّل سبباً رئيسياً في عدم عودة الكثيرين إليها هي حال الطرق التي «كلّها ترابية وصعبة المسلك صيفاً، وتتحوّل إلى مستنقعات من الوحول شتاءً، فيستحيل معها التنقل إلا سيراً على الأقدام أو على ظهور البغال والحمير، وهذه الوسائل غير متوافرة عند الجميع».
    يضاف إلى كل ذلك غياب فرص العمل، فيوضح فواز العمّوري أنه «ما من وسيلة توفّر لقمة العيش لنا في هذه المنطقة الحدودية سوى بعض الأعمال الزراعية البسيطة التي تواجه معوقات يصعب تعدادها بدءاً من الحراثة وصولاً إلى تصريف الإنتاج والكساد وتدنّي الأسعار». لذلك يعيد العموري سبب «إقامة نحو 250 عائلة في منطقة البقاع، أن منها من ينتظر تزفيت طرق البلدة للعودة إليها، ومنها من ينتظر إدراج اسمه على لوائح التعويضات التي لا تزال قيد المعالجة».

    بلدية الماري

    من جهته يوضح رئيس بلدية الماري الشيخ غازي قيس أن قرية الدحيرجات تتبع بلدية الماري «التي تعاني أزمة مادية كبقية بلديات قرى المنطقة، والسبب يعود الى شحّ الواردات من الصندوق البلدي المستقل»، علماً أنه «حتى إذا توافرت الأموال، لا تسمح موازنة بلدية الماري بتزفيت طرق قرية الدحيرجات لأن مثل هذا المشروع يجب أن يقام على مستوى الوزارات، وعلى المرجعيات السياسية تبنّيه والمطالبة بتنفيذه». ويشير قيس إلى أمر لافت في الدحيرجات هو «نقل غالبية الأهالي نفوسها إلى قرى وبلدات في البقاعين الأوسط والغربي، وباتت تقترع هناك وتتبع مرجعيات سياسية غير موجودة عندنا، لذا عليهم أن يتدبروا أمرهم لأن البلدية لو كانت قادرة لقامت بتأهيل طرق الماري وتزفيتها».