نقولا ناصيف
لا تذكر الدولة اللبنانية مرةً أن الجامعة العربية وقفت في صفها في نزاع بينها و بين مصر، وبينها وبين الفلسطينيين، وبينها وبين سوريا. ولم تقف الجامعة العربية مرةً إلى جانب قسم من اللبنانيين في نزاعهم مع الأفرقاء الثلاثة هؤلاء. وسواء كان التحرّك بمبادرة منها أو بطلب ملح من لبنان، اختارت الجامعة العربية باستمرار الجنوح إلى الفريق الآخر، وفي أحسن الأحوال الظهور بمظهر المحايد الذي كان ينطوي دائماً على انحياز مبطّن.
حصل ذلك في أزمة الرئيس كميل شمعون مع الرئيس جمال عبد الناصر عام 1958، وأزمة الرئيس شارل حلو مع حزب البعث في سوريا عام 1969، وأزمة الرئيس سليمان فرنجيه مع سوريا والفلسطينيين عام 1973 إبان اشتباكات الأخيرين مع الجيش اللبناني. وحدث ذلك مع كمال جنبلاط عندما حاول عبثاً أن يلوذ بالجامعة العربية عام 1976 للحؤول دون تدخّل عسكري سوري في لبنان، وعندما اشتكت الجبهة اللبنانية ضد القصف السوري للأشرفية عام 1978، ثم في حرب زحلة عام 1981، وأخيراً وليس آخراً عندما عوّل رئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون على الجامعة العربية في حربه على سوريا وانتهى الأمر باتفاق الطائف. ولم تتردّد الجامعة في تفهّم رفض الرئيس السوري حافظ الأسد تعهّداً خطياً بالانسحاب من لبنان فاتحه فيه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل لئلا يكون يتنازل أمام ميليشيا.
كل هذه الدروس من أجل تأكيد الموقف الذي يُعتقد أن وفد الجامعة العربية يحمله معه إلى بيروت اليوم وحتى الجمعة المقبل.
وخلافاً للوساطة التي قام بها الأمين العام للجامعة عمرو موسى في كانون الأول الفائت، تبدو المهمة الجديدة أكثر تعقيداً لأسباب لبنانية ــــــ لبنانية، ولبنانية ــــــ سورية، تبرزها الملاحظات الآتية:
1 ـــــــ سقوط صيغة التسوية التي كان موسى قد اقترحها في وساطته الأولى، عندما تحدّث عن حل يقول بلا غالب ولا مغلوب وتأليف حكومة وحدة وطنية وفق معادلة 19 + 9 + 1. ومع أن التسوية تلك سقطت باكراً يوم جهر موسى، وهو يغادر بيروت في 22 كانون الأول، بإخفاقه في تحقيقها بسبب التصلّب المتبادل للأفرقاء اللبنانيين، فإن تطورات الأشهر التالية منحت كلاً من طرفي النزاع مزيداً من أوراق تمكّنه من التشدّد في شروطه. لا قوى 14 آذار مستعدة للتخلي عن الأكثرية التي تمسك بها في مجلس الوزراء وخصوصاً بعد إقرار المحكمة الدولية، ولا المعارضة جاهزة بدورها لحل لا يبدأ بتأليف حكومة وحدة وطنية بثلث معطل، وقد ربطت فتح أبواب مجلس النواب وإنهاء الاعتصام في وسط بيروت وتأمين نصاب الثلثين لانتخاب الرئيس الجديد بهذا الشرط. والمطّلعون على ما يحمله الوفد العربي الزائر يشيرون إلى ثوابت مهمته: حوار داخلي يؤدي إلى حكومة جديدة، من غير أن يشجع الوفد ما يؤدي إلى ليّ ذراع أي من طرفي النزاع. والمقصود بذلك ــــــ تبعاً للمطلعين إياهم ــــــ أن موسى ومرافقيه يأتون، بلا أوهام، للتحقّق من مدى استعداد الطرفين لتقديم تنازلات متبادلة قبل الخوض في خطة التسوية.
2 ــــــ في المقابل، ليس في وسع طرفي النزاع التعويل على دور مهم للجامعة العربية يقود إلى تسوية سياسية داخلية، وإن رغب الأفرقاء اللبنانيون في ذلك. وأكثر من أي وقت مضى، تبدو الجامعة العربية منقسمة على نفسها في الموقف من لبنان وسوريا، كما في الموقف مما يجري في العراق والأراضي الفلسطينية. يعبّر عن ذلك الخلاف السعودي ــــــ السوري، والسعودي ــــــ القطري في مقاربة التوازنات السياسية القائمة في لبنان، فضلاً عن أن مصر فضّلت الوقوف في منتصف الطريق كي تبقي قنوات الحوار والوساطة مفتوحة. وكما يتعذّر على لبنان تحت وطأة هذا الانقسام انتزاع موقف مؤيد له من الجامعة العربية في مشكلته مع سوريا، لم تكن الحال أحسن عندما كانت الجامعة العربية تحت سيطرة زعامة واحدة هي عبد الناصر الذي أفقد أي طرف عربي آخر في الجامعة، ما بين عامي 1955 و1970، القدرة على المناورة داخلها وتجاوز إرادته. خسر شمعون في حزيران 1958 معركة إدانة عبد الناصر لتدخّله في الشؤون اللبنانية وتهريبه السلاح والمسلحين إلى لبنان، وخسر حلو المعركة نفسها عام 1969 مع عبد الناصر والفلسطينيين على وفرة الجهود التي بذلها حسن صبري الخولي موفد الزعيم المصري والجامعة العربية لتسوية الصدامات المسلحة مع الفلسطينيين ومع دمشق التي ثابرت على تهريب مسلحين وأسلحة، فانتهى الأمر باتفاق القاهرة سنتذاك. وحينما تدخلت الجامعة العربية عام 1976، تقدّم إضفاء الشرعية على الوجود السوري في لبنان وحماية المقاومة الفلسطينية المحافظة على السيادة اللبنانية وإنهاء حرب السنتين.
لم يفز لبنان في أي من هذه المعارك. كانت سوريا أولها وآخرها، والمشكلة الحدودية اللبنانية ــــــ السورية أولها وآخرها. وكذلك تهريب أسلحة ومسلحين. وفي اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب الجمعة الفائت (15 حزيران) كسبت دمشق ما كان لبنان يأمل الحصول عليه: إما إدانتها أو مقاطعتها. فإذا بتوازنات الانقسام في الجامعة العربية تدفع بالموقف في منحىً آخر لا ترحب به قوى 14 آذار في أبسط الأحوال، وهو الاتصال بالأفرقاء اللبنانيين وتشجيعهم على معاودة الحوار. أي إعادة بعث الروح في تأليف حكومة وحدة وطنية تريد الغالبية إبعاد كأسها قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وكانت ذريعة الجامعة أنها لا تستطيع إدانة سوريا بلا إثباتات قاطعة.
3 ــــــ لا يماثل التأييد العلني للدبلوماسية الغربية الوثيقة الصلة بقرارات مجلس الأمن لتحرّك الجامعة العربية إلا القلق من فوضى قد تكون البلاد مقبلة عليها في ضوء ما شاع ولا يزال يتردّد بكثير من الجدية عن اعتزام رئيس الجمهورية تأليف حكومة ثانية. وعلى وفرة مواقف التأييد للوساطة السابقة للجامعة العربية في كانون الأول الفائت، ومواقف التشجيع التي سمعها موسى من فرنسا والولايات المتحدة حينذاك، فإن تفاقم المشكلة اللبنانية وسرعة استحقاقاتها أحالت خطى التحرّك العربي أبطأ قدرة على مواكبتها. يدفع إلى هذا الاعتقاد ما بلغ، في الساعات الأخيرة، ممثلي دبلوماسية دول غربية في بيروت عن فحوى الخلوة التي جمعت الرئيس إميل لحود بالبطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير الأحد (17 حزيران)، ومفاده قول الرئيس للبطريرك إنه يتفهّم قلقه من وجود رئيسين وحكومتين ولبنانيين، وإنه يجاريه في هذا القلق. لكنه رأى أن السياسة التي تعتمدها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي لا يعترف بوجودها، وكذلك قوى 14 آذار، ستؤول بالوضع الداخلي إلى وجود حكومتين.
وأضاف لحود لصفير: هناك أحد حلين، إمّا حكومة وحدة وطنية تشرف على انتخابات الرئاسة وفي حال تعذّر الاستحقاق تتولى هي الحكم إلى أن يتاح حصوله، أو انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفق النصاب الذي ينص عليه الدستور وهو ثلثا النواب. وخارج أحد هذين الحلين ستكون هناك حكومة ثانية سيعمد إلى تأليفها كي تتسلّم الحكم منه.