strong> مهى زراقط
لا تعرف «آنوما»، الخادمة الفيليبينية، الرجل الذي فتحت له الباب لتوّها وهو لا يطلب الدخول بل يسأل عن «المستر» أو «المدام». السيدة لا تعرفه أيضاً، تنظر إلى «آنوما» بغضب لأنها فتحت الباب فتنسحب الأخيرة بهدوء.
يطلب الشاب إذناً بالدخول بعد أن يعرّف عن نفسه «أنا أقيم في البناية المقابلة، وعضو في لجنة الحي». لم تسمع السيدة قبلاً بشيء اسمه «لجنة حي» لكنها لا تسأله عنها بل تستمع إلى طلباته: «قرّرنا حفاظاً على سلامكتم أن نطلب منكم وضع تعريف بأنفسكم على سياراتكم لأننا نحاول أن نحصي سيارات الحيّ لكي نكتشف الغريبة منها إذا دخلت».
ترحّب السيدة كثيراً بهذه المبادرة الطيبة من «شباب الحي» وتعلن استعدادها لذلك «أكيد أكيد، يعطيكم العافية، برافو لأنكم فكرتم بهذا الموضوع، أنا أبقى خائفة دائماً من السيارات الغريبة».
***

تفتح نسرين الصندوقين الأمامي والخلفي لسيارتها، وتترك للعامل في موقف السيارات مهمة التأكد من خلوّهما من المتفجرات. هكذا تقول لصديقها الذي يذكّرها كم كانت تكره تعرّضها للتفتيش كلما دخلت إلى مركز تجاري أو زارت أحداً من أصدقائها المقيمين في احد المربعات الأمنية المنتشرة في لبنان.
«هو لا يفتشني، إنه يعمل لمصلحتي، ما يدريني أنا من قد يضع شيئاً في سيارتي من دون علمي»؟ تجيبه وهي تضع طوعاً خلف الزجاج الأمامي صورة عن دفتر سيارتها الرسمي الذي يعرّف باسم مالك السيارة ورقم تسجيلها وتاريخ الملكية وتاريخ وضعها في السير أول مرة. تنزل من السيارة فينبهها العامل في الموقف إلى أنها لم تترك رقم هاتفها «آه صحيح، عفواً» تجيبه وتعود إلى السيارة لتسجّل على الورقة التي تركتها رقم هاتفها الخلوي.
يضحك صديقها: «بقيت أسبوعين كاملين أطلب الحصول على رقمك، الآن تضعينه مشاعاً للجميع؟».
لا تضحكها النكتة «البايخة»: كأنك غير قلق مثلي من الوضع الأمني؟
يجيبها بأنه مرتاح أكثر منها: «الفرق بيني وبينك أني صرت ألتزم دوام سائقي سيارات الأجرة الجديد.
***

لم يتردّد «أبناء المنطقة» في تعليق لافتة على كلّ الجدران في «المنطقة» التي يقيمون بها تفيد الآتي:
«الرجاء من أصحاب السيارات التي تريد الوقوف على جانب الطريق وضع الاسم ورقم الهاتف. وأي سيارة تثير الشك سوف يبلغ عنها تحت طائلة المسؤولية».
في هذه المنطقة بالذات، وقربها مربع أمني لأحد المراجع السياسية البارزة، العناصر المولجة حماية المربع تفتش يومياً كل الداخلين إلى المربّع ولو كانوا من سكان البنايات المجاورة، أي جيران المربع.
تختلف ردة فعل إحدى السيدات المقيمات هناك في تقبّل عملية التفتيش اليومي هذه، حتى لحقيبة اليد، وفقاً لسلوك عنصر الأمن «إذا كان مهذباً فقد أبادر أنا إلى فتح حقيبتي، لكن أحياناً يتصرّف الشباب بقلّة احترام مثل أن يقول لي أحدهم عشية اغتيال النائب وليد عيدو: لا يمكنك الدخول إلى بيتك اليوم».
***

ينادي جمال النادل في الكافيتيريا التي اعتاد تناول الطعام فيها يومياً ويطلب منه الاحتفاظ بحقيبته قليلاً إلى أن يعود «مشوار صغير، لن أتأخر ولا أريد أن أحملها معي».
ترتفع تعليقات روّاد الكافيتيريا مستنكرين: «شو؟ لوين؟ شو حاطط فيها؟ محشاية؟».
يضحك، ويقول غامزاً صديقه خبير المتفجرات: «إيه محشاية، وستنفجر بعد نصف ساعة. أنا ذاهب لأتوارى عن الأنظار في أقرب مخيّم... وصّوني».
يغيب جهاد، وينطلق الحديث مع خبير المتفجرات الذي شاهده أحدهم يركل حقيبة فارغة على شاشة التلفزيون: «والله يا زلمة «فيّقوني» بعد منتصف الليل لأتفحص حقيبة يبدو واضحاً أنها فارغة ولا تحتوي شيئاً... كلّما شكّوا بشيء يطلبون خبيراً...». الأماكن التي يذهب إليها الخبير متعدّدة «حتى لو كانوا يريدون الكشف على مجمّع حلاوة يتصلون بي أو بزملائي».
***

الساعة تقترب من التاسعة مساء، يتناول سائق سيارة الأجرة 1500 ليرة من الراكب الجالس إلى جواره ويضيفها إلى غلّة اليوم ويروح يعدّ بعد أن يضع عشرة آلاف جانباً هي ثمن البنزين الذي اشتراه: «39 ألفاً... خير وبركة».
يقول للراكب: «طلع معي نحو 25 راكباً اليوم، العدد مقبول بالنسبة إلى أمس، «برمت» بيروت كلّها ولم أتوفق إلا بعشرة ركاب».
الحديث غير جديد على الراكب، غالبية سائقي سيارات الأجرة الذين يصعد معهم يشكون من قلّة الركاب منذ أكثر من عشر سنوات وهو لا يفعل إلا أن يهزّ رأسه معرباً عن تضامنه. لكن السائق ذلك اليوم يضيف جديداً: «أنت آخر زبون، لولا أن بيتي في الضاحية لما أقلّيتك معي من فردان بسرفيس واحد». ويستطرد: «شو بعدك عم تعمل بفردان إلى هذا الوقت؟ ألا تخشى من الانفجارات».
يقول له إنه لا يخشى الانفجارات «لكنني قد لا أجد سيارة أجرة تقلّني إلى البيت إذا تأخرت أكثر، لهذا أعود باكراً». يضحك السائق: «أكيد والدتك سعيدة بهذا الأمر، مثل زوجتي، صرنا نعود باكراً إلى البيت».
***

«أليس لديكم حسّ أمني؟ أم أنكم مرتاحون لعلاقتكم بـ 8 آذار؟»
تسأل إعلامية مشهورة بجدية وهي تطلب من الحضور في ندوة جمعت عدداً من أقطاب 14 آذار إقفال الستائر للحفاظ على الأمن.
هذا التعليق الاتهامي الذي صدر عن الإعلامية قبل شهر تقريباً، يتكرّر يومياً حول طاولات الحانات الليلية، حيث تعطلّت لغة الحوار بين شباب «محسوبين» على معسكرَي 8 و14 آذار إذ يكون فيه الطرف الأول غالباً في موقع الاتهام.
هذا ما يلاحظه شاب عربي يزور لبنان حالياً «ويدخل سريعاً في الجوّ» حين يقول معلّقاً على «هوية» إحدى الحانات التي تجرّأ مسؤولوها وفتحوا أبوابها حتى ساعة متأخرة «وممّ يخاف وكلّ روادها هم ممن يضعون الانفجارات» في إشارة إلى هوية روّاد الحانة.
يمرّ تعليق الشاب مرور الكرام «لأنه غير لبناني» لكن الوضع يختلف عندما يكون المتحدثان لبنانيين «لذلك نتجنّب الحديث في السياسة للمحافظة على صداقاتنا» تقول غادة، مستطردة «علماً أن جماعة 14 آذار هم الذين يفتحون الحوار السياسي دائماً ودائماً في صيغة الاتهام، ونحن «المحسوبين» على 8 آذار نقفله».
***

إنها الحادية عشرة ليلاً في المقهى، وعدد الروّاد لا يتجاوز خمسة. «البارمان» غاضب «كلّ يوم هيك، كلّ يوم هيك... معقول كلّ الناس بتخاف؟ ما في حدا قبضاي؟».
يلتفت الموجودون إليه ثم ينظرون في ساعاتهم ويضحكون. يخاف أن يغادروا بعدما نبّهتهم ملاحظته إلى تأخر الوقت فيعرض عليهم مشروباً مجانياً: «على حسابي» يقول.
لا يطلب «البارمان» من روّاده نسيان ما يحصل في الخارج والوضع الأمني المتردي، بدليل أنه وضع شاشة تلفزيون كبيرة لمتابعة الأخبار، لكنه يريد الاستئناس بالناس الذين كان يغصّ بهم مقهاه خصوصاً حين تعقد فيه الندوات والنشاطات: «كثيراً ما وقعت انفجارات وتابعها الناس هنا كأنهم في بيوتهم، لكن عدد الزبائن يقلّ يوماً بعد يوم».
رغم ذلك لم يقرر أصحاب المقهى إقفاله بعد كما فعل غيرهم من أصحاب المقاهي الأخرى في العاصمة.
***

«ع اليمين»
ينصاع الشبان الثلاثة في السيارة إلى أوامر العنصر الأمني على أحد الحواجز الطيّارة المتكاثرة في العاصمة.
«ع الأرض» يأتي الأمر الثاني. فينزل الشبان ويخضعون لتفتيش اعتادوه وباتوا يتقبلونه «على راسي، بوقف ع اليمين وبنزل وبتفتش، شرط أن يتصرفوا بتهذيب». يقول رياض ـــ شاب في الخامسة والعشرين ـــ «هناك عناصر لا همّ لها إلا التسلية، قال لي أحدهم مرة كيف تقف على حاجز أمني وتبقي رجلك ملفوفة على الرجل الأخرى... لم أردّ عليه وأنزلت رجلي.. لكن ما دخله هو كيف أجلس؟
يؤكد رياض أن هذا الحديث يكاد يصبح شبه يومي بينه وبين أصدقائه: «وكلنا متفقون أن الجيش أسهل في التعامل من القوى الأمنية. أخلاقياً هم أفضل بكثير بالإضافة إلى انني أثق بهم أكثر».
أما أكثر ما يزعجه فهو العناصر الحزبية التي باتت ترتدي ثياباً أمنية وتفتش الناس: «كمان ع راسي، لكن هل يعرف هو كيف يفتش؟ هل تعلّم تقنيات التفتيش؟ إنو بس مظاهر....
لكلّ هذا، قرر رياض طوعاً الابتعاد عن الشر «أسهر في البيت، أو في بيوت أصدقائي، لست مضطراً لإثارة أعصابي ولا إثارة القلق لأهلي إذى وقع انفجار ولم أكن في البيت».
لا شرّ تبتعد عنه شقيقته لأنها لا تخضع للتفتيش «مرّة واحدة سألوني إن كانت السيارة مسجلة باسمي».
***

تمرّ سيارة إسعاف قرب المقهى الذي تجلس فيه روان مع أصدقائها... الشارع شبه المقفر غالباً هذه الأيام يسمح بالسؤال عن وقوع انفجار.
«كيف سنعرف؟ لا تلفزيون هنا»
«لحظة، سأتصل بك على الخلوي وإذا توافر الإرسال فهذا يعني أنه لا انفجار»
يرنّ الهاتف ويضحك الأصدقاء لإنجازهم هذا الجديد في تقنيات الانفجارات... إنجاز يتحوّل إلى محور للحديث الساخر من الوضع ومن حالهم في مدينة لم يعودوا يعرفونها.