صيدا ـ خالد الغربي
لم يكد أهالي التعمير يتنفسون الصعداء بعد دخول الجيش إلى منطقتهم، حتى أتت معارك مخيم نهر البارد حاملة معها قلقاً أمنياً إلى المنطقة التي يأمل سكانها عودة الهدوء إليها


في زمن الهرب من الموت والخوف الذي يتحكم في أبناء التعمير في صيدا، تشرّع المنطقة الأكثر بؤساً وحرماناً في عاصمة الجنوب أبوابَها على المجهول. فالمربع الخالي من الشرعية اللبنانية التي عهدت حفظ الأمن فيه إلى قوة فلسطينية مشتركة، عمادها القوى الإسلامية، يشهد حركة نزوح وتركٍ للمنازل مرشحة للاتساع. وعبارة «ما بدنا نموت»، مبررة للمواطنين الذين يرزحون تحت وطأة «الهبّات الساخنة».
الفرحة بدخول الجيش إلى القسم الأكبر من التعمير لم تعمّر، حتى أدرك أهل التعمير أن الأمر على غير ما يشتهون. لقد أملوا في اجتثاث مصدر القلق الذي تبين أنه متروك للأقدار، واستعين بالقوة الأمنية الفلسطينية المشتركة لتوفير الأمن. فـ«المحاصصة الأمنية»، يقول مهندس من أبناء التعمير، «أمر محيّر. الحاجز الذي تقيمه القوة الأمنية الفلسطينية في منطقة لبنانية من التعمير لا يعرقل أمورنا الحياتية، بل يسهّلها، وعادة ما تعلو البسمة شفاه عناصره. لكن، ماذا لو سألني المسلح على الحاجز: من أنت؟ بماذا أجيبه؟ من الممكن أن يكون المسلّح مطلوباً للقضاء اللبناني». مواطن آخر يجزم بأن «كل المسكنات والمعالجات لم تبعث الطمأنينة في النفوس». فالخوف انعكس هجرة داخلية ومؤقتة من التعمير إلى التعمير، لكن بعيداً عن خطوط التماس، وكذلك هجرة إلى منطقة أكثر أمناً خارج التعمير. أثناء الجولة في حي التعمير، وجدنا سيارة نقل بيك ـــــ أب محمّلة أثاثاً منزلياً ينقل إلى خارج المنطقة، بعدما قرر سكان أحد المنازل الرحيل عن منطقة عاشوا فيها ربع قرن. يقول صاحب المنزل: «الموت من أمامنا ومن خلفنا، لماذا أبقى؟».
التعمير، هذا الخزان الشعبي الذي يكاد يكون نسياً منسياً، يزيد من حرمانه وبؤسه تلك النظرة الموجهة إليه من الزاوية الأمنية حصراً، فيما الإهمال والحرمان يشملان كل الصعد. وعلى جدار فاصل (بين مناطق السلطة واللاسلطة) تطالعك بقايا صور ووعود انتخابية لم تترجم، فيما «المربع الأمني» الذي بات تحت سيطرة «القوى الإسلامية» يثير خوفاً لدى مواطن صيداوي من أن «يصبح الوضع كما هو حال مخيم نهر البارد: مخيم جديد وآخر قديم».
المنطقة الخارجة عن سيطرة الجيش في التعمير تشهد عملية إفراغ «طوعي» للأهالي، بنسبة مرتفعة. فهؤلاء يعلنون خشيتهم من تجدد الاشتباكات بين الجيش و«جند الشام»، أو من أعمال أمنية. وفي كل الحالات، «صرنا خط تماس»، تقول أمية الغربي، وهي واحدة من الذين تركوا منازلهم في المنطقة الخارجة عن سيطرة الجيش. وتضيف: لذلك «تركنا منزلنا واشترينا آخر في صيدا».
أما مازن بديع الذي رحّل عائلته إلى منزل يملكه شقيقه في منطقة مجدليون فيقول: «زوجتي حامل ونعيش على أعصابنا ومش عم نقدر نشتغل ونترك أهلنا في المنطقة، وكل ساعة هبة باردة هبة ساخنة. شو بدنا بوجع الرأس. تركنا التعمير». والاشتباك الذي جرى كان بمثابة جرس إنذار لمحمد حجازي.
أم محمود السيد التي كانت تنشر الثياب على حبل غسيل شرفتها، قالت بلكنة تعميرية: «الكل عم يترك، وما حدا مستعد يموت ببلاش»، مردفة: «شوف البيت اللي مقابلنا، بعدا القذيفة معلمة». وتمنّي أم محمود النفس بوجود منزلها في منطقة انتشار الجيش: «نحن أفضل بكتير من البنايات التانية الموجودة جوا (المنطقة الخارجة عن سيطرة الجيش)».
سليم رازيان، الذي يملك مطعماً لبيع الفول المدمس، يؤكد أن من غادر التعمير محق: «رصاصة واحدة تحدث هلعاً وخوفاً». يتحسّر رازيان على فقدان الكثير من زبائنه الذين غادروا، مشيراً إلى أن الهدوء الحالي قد يكون «هدنةً مؤقتة». فالحل الحقيقي والنهائي يكون، حسب رأيه، بفرض سلطة الدولة. ويتابع: «الناس يعيشون على أعصابهم، ولم يعد في مقدورهم أن يتحملوا، وخاصة أصحاب المنازل الواقعة على خطوط التماس في آخر التعمير، وكثير من هؤلاء يستدينون ليستأجروا منازل في صيدا».
ويشكو محمد القاروط عدم ارتياد الأولاد لمحله المعد للتسلية والإنترنت، ويقول: «الحي يفرغ من سكانه، والمواطنون الذي بقوا خائفون من الرصاص، ولا يسمحون لأبنائهم بالخروج من المنازل».
وخلافاً للواقع المرير الذي تعيشه الأحياء الداخلية، تشهد المناطق الآمنة إعادة ضخ الحياة فيها، فشرع سكانها بترميمها وتحديثها وطلائها بألوان زاهية لا تعكس بؤس الحالة التعميرية.
الهجرة في التعمير بحاجة إلى المراقبة، لكن ماذا لو طال أمد الحلول ولم يأتِ الترياق؟ عندها قد يكون المشهد أمام تغيير يصعب لجمه. «أوجدوا لنا حلاً»، يقول ابن المنطقة أحمد البزري الذي يصرخ قائلاً: «لن نترك بيوتنا».