إبراهيم الأمين
رفض الرئيس إميل لحود مراراً فكرة اعتبار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مستقيلة، وتركها تقوم بتصريف الأعمال. برّر يومها موقفه بأن تصريف الأعمال لا يقلّ خطورةً عن وضع الحكومة الحالي، وأن الخطوة الأكثر فاعلية هي في إقالة الحكومة، وتأليف حكومة أخرى، وعدم البقاء أسرى التجاذب السياسي الذي لن ينتهي الى شيء. تمسك لحود بموقفه هذا كثيراً، كان آخرون من أقطاب المعارضة يستعجلونه خطوة كهذه لاعتقادهم أنهم يقطعون الطريق على قرارات تتخذها الحكومة الحالية وتبيح خطوات سياسية وإدارية من النوع الذي يناسب فريق 14 آذار.
قبل مدة، سمع أقطاب المعارضة كلاماً سعودياً عن دعم وضغط لأجل إقامة حكومة وفاق وطني. ظلّ السفير عبد العزيز خوجة يرفع من منسوب التفاؤل، لكنه سرعان ما خفض السقوف، تراجع من فكرة حكومة 17 مقابل 13 الى حكومة 19 مقابل 11 ثم عاد مجدداً إلى الحديث عن طلبات فريق الأكثرية بما خصّ الضمانات والتطمينات، ومع أن خوجة كان يردّد كثيراً أن مبادرته تحظى بتأييد أميركي وفرنسي وبتنسيق مع إيران، وكان يرفض توضيحات المعارضة عن مواقف أقطاب من 14 آذار الرافضة أو المعرقلة أو المعطّلة للمبادرة، وكان يشير بإصبعه إلى قريطم، معتبراً أن صمت سعد الحريري إشارة عدم رضى عن كلام الحلفاء، ونقل دائماً موافقة الرئيس فؤاد السنيورة ودعمه لمبادرته. وظلت الأمور تراوح عند هذه الحدود حتى اغتيال النائب وليد عيدو. يومئذ توقف الكلام مقابل استنئاف الحريري حملته على المعارضة، ثم إعلان 14 آذار رفضها الحديث عن حكومة وحدة وطنية وتركيز الأولوية على ملف الحدود مع سوريا من دون نسيان المعزوفة المملّة عن ضرورة الإتيان برئيس جديد للبلاد.
كل هذه المبادرات كانت تمثّل إحراجاً مباشراً للرئيس نبيه بري، الذي ظل على الدوام نقطة الوصل، في الوقت الذي ملّ فيه التيار الوطني الحر وحزب الله وتيار المردة والآخرون «كذب الأكثرية ومماطلتها» على حدّ تعبير أحد أقطاب المعارضة. أمّا الرئيس لحود فكان يحرص على القول إن خطوته الدستورية ترتبط بقوة بموقف الأكثرية من اقتراح تأليف حكومة الوحدة الوطنية وببرنامج المعارضة المضاد. وكان بري يتردّد في المباشرة بخطوة بديلة، وعندما أُثيرت فكرة الحكومة الثانية، ناقشها رئيس المجلس بانفتاح وأبلغ من يهمه الأمر من الطرف الآخر والوسطاء أن عدم المساعدة على إنتاج توافق على حكومة وفاق وطني سوف يقود الى هذا الخيار، لأنه لا يمكن المعارضة أن تترك فريقاً لا يمثّل الغالبية الفعلية من اللبنانيين يتحكّم بمصير الجميع ويأخذ لبنان الى الانهيار. وهو كلام قاله بري أمس صراحة لوفد الجامعة العربية، وهو ما مثّل تقدماً في موقف بري الذي حسم منذ مدة غير بعيدة موافقته على المبدأ وظل يناقش في التفاصيل، وكان المهم بالنسبة إليه هو ترك الخيار حتى الحدود القصوى.
ومع أن آخرين في المعارضة، كما رئيس الجمهورية، في موقع الساعي الى حسم الأمور باكراً، إلا أن بري تمنى تأجيل الخطوة الى ما بعد فتح باب الانتخابات الرئاسية. وهو تلاقى في هذا الأمر مع البطريرك الماروني نصر الله صفير، دون أن يكون الأخير موافقاً أصلاً على مبدأ قيام حكومة ثانية، وهو قال هذا الكلام لكل من ناقشه أو التقاه وبعث برأيه هذا الى من يراه في موقع القرار. لكن صفير الذي ليس بيده ما يحول دون حصول أمر من هذا النوع، سعى مع رئيس الجمهورية الى انتزاع تعهد بعدم الإقدام على هذه الخطوة. لكن لحود استفاد من أنه لم يعلن يوماً نيّته القيام بخطوة كهذه ليقول لصفير: أنا لم أتحدث عن خياراتي الدستورية إذا لم يحصل توافق على قيام حكومة وحدة وطنية تتسلم مني مقاليد الحكم. وأنا أدعو الى توفير هذا التوافق، وإذا لم يحصل فسوف ألجأ الى ما أفترضه في صلب الدستور وفي مصلحة البلاد. يومها فهم صفير أنه انتزع من لحود قراراً بعدم الإقدام سريعاً على خطوة تأليف حكومة ثانية، وأن الأمر صار متروكاً الى أسبوع الانتخابات الرئاسية. ومقابل هذه النتيجة سعى صفير مع أطراف محلية وخارجية الى انتزاع تعهّد بأن الانتخابات الرئاسية لن تتم من طرف واحد. وهو هنا كان يهتم لأمر آخر، هو ألا يبادر الفريق الاكثرية الى عقد جلسة نيابية دون نصاب الثلثين واختيار رئيس للجمهورية والاتكال على موقف المجتمع الدولي لتوفير المظلة الشرعية له.
لكن يبدو أن فريق الاكثرية، وبالتحديد من يقف خلفه، في مرحلة استعجال الخطوات الأحادية، فتم استغلال أحداث نهر البارد (التي تتطلب تحقيقاً واسعاً أمنياً وسياسياً لفهم حقيقة ما حصل) ومن ثم أعمال التفجير المتنقلة بين المناطق وصولاً الى اغتيال النائب وليد عيدو، لترتيب جدول أعمال مختلف. لقد وجد هؤلاء ومن خلفهم الولايات المتحدة أن هناك تطورات لا تفيد في الخطة الأصلية: إقرار المحكمة لم يتحول إلى ورقة ضغط فاعلة بوجه المعارضة داخلياً، والشروع في حملة نهر البارد العسكرية لم يثمر نتائج سريعة، والفرنسيون باشروا تحركاً لا يتطابق وخطوات ما قبل خروج الرئيس جاك شيراك من الرئاسة. وثمة تطورات كبيرة تجري في المنطقة منها فتح قنوات للحوار بين أوروبا وسوريا، وثمة ما هو مفاجئ في فلسطين، حيث نجحت حماس في منع انقلاب كان يعد له فريق «14 آذار الفلسطيني». فكان لا بد من إعادة تحريك الأمور بطريقة مختلفة. وبناءً على ذلك، فقد جرى استغلال الأحداث الأمنية (لا يزال السؤال ممنوعاً عن عدم اكتشاف مرتكبيها وعدم السؤال عن المستفيد منها) لأجل القول إن الأولوية الآن أمنية ـــــ عسكرية، وخرج «القائد المعلم» وليد جنبلاط بأمر اليوم خاصته: اخرسوا فلا صوت يعلو على صوت المعركة، ولا أولوية سوى إقفال الحدود مع سوريا ودعم الجيش في معركة استئصال الإرهابيين الذين صدّرتهم سوريا الى لبنان... ولم يكد أحد يفهم ما الذي حصل حتى قرر فريق 14 آذار إجراء انتخابات نيابية فرعية كبروفة لعمل آخر يتصل بقرارات إدارية في الحكومة وفي الإعداد لانتخابات رئاسية من طرف واحد.
عند هذا الحد، تراجع الجميع عن التحفظات القائمة، وصار الجيمع مقتنعاً بأنه لا مجال سوى تأليف حكومة ثانية، وهو الأمر الذي تلمسه الآخرون من موفدين دوليين ومن قيادات في 14 آذار، ما استدعى حفلة الجنون والتهويل واستجداء العرب لأجل الضغط من باب الدعوة الى استنئاف حوار الطرشان.. وبدل أن تنتظر المعارضة ومعها الرئيس لحود موعد الاستحقاق الرئاسي في 25 أيلول لاتخاذ القرار، فإن الأمور تسير بسرعة نحو تأليف حكومة ثانية خلال أقل من شهر. وبعدها سوف يكون لبنان أمام انقسام إداري يضاف الى الانقسام الشعبي، وعين الجميع منذ الآن على المؤسسات العسكرية والأمنية.. والله يستر!