strong>كامل جابر
  • لا خطط لاستثمار مواهبهم وقدراتهم، وغياب لمحاولات علاجهم

  • تشهد بلدة عين قانا في إقليم التفاح ظاهرة وجود نحو أربعين أبكم فيها تقوم بينهم علاقات اجتماعية ناجحة.لكن المشكلة التي يعانونها هي انعدام فرص العمل وعدم اندامجهم بشكل واسع في محيطهم للاستفادة من مواهبهم في ظلّ غياب سياسة وطنية واضحة تعالج أوضاع ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل عام

    تختصر إشارات الأيدي وتمتمات الشفاه العلاقة بين نحو أربعين أبكم من أبناء بلدة عين قانا في إقليم التفاح، وبين أسرهم وجيرانهم وأبناء بلدتهم والجوار، فيما تغيب المشاريع التي كان يمكنها استثمار قدراتهم البديلة في حركة إنتاجية.
    وإن تمكّن هؤلاء من الانخراط في الحياة العامة في عين قانا من خلال المشاركة في مختلف المناسبات الاجتماعية الخاصة بالبلدة، والوقوف على مجمل شؤون وشجون أهلها، وكلّ شاردة وواردة بذكاء فطري وسرعة بديهة مكتسبة، إلا أن مجتمعهم لم يرتقِ بعد إلى مستوى إقامة علاقة مثــــــــــالية تتخطى حدود إعاقة النطق، أو تذهب باتجاه دمجهم في مكوّنات العلاقات والتبادل المعرفي والاستفادة من مواهبهم وخلق فرص إنتاج تعتمد على الحرفة والإبداع الفني.

    عائلة الملاح

    تسهم الوراثة والتزاوج، من دون أدنى شك، في تنامي العدد اللافت لبُكم عين قانا. وتختلف الحالات في القرية بين أب أبكم وأبناء أصحّاء، وبين والدين أبكمين وأبناء ناطقين بطلاقة أو والدين ناطقين، فيما بعض أبنائهما من فاقدي النطق. وتحمل سير ويوميات هؤلاء الكثير من الخصوصية في علاقاتهم الأسرية والاجتماعية.
    يتبادل صافي علي ملاح البالغ من العمر 47 عاماً حديث الإشارات مع ابني شقيقه محمود الأبكم، علي (13 سنة) وزهراء (11 سنة). الأخيران ينطقان بشكل واضح، لكنهما يتفوقان في لغة الإشارات المرفقة بكلام متزن سليم، على متخصّصي المدارس والجامعات في التعاطي مع أصحاب الاحتياجات الخاصة. ينقلان عن عمهما أنه لم يغادر البلدة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، بل كان يصعد إلى سطح البيت حاملاً منظاره، لمراقبة الطائرات الاستكشافية «وعندما أراها اقتربت، أعود فوراً إلى الداخل وأنتظر ابتعادها عن أجواء البلدةيعمل صافي في «ربط» الحديد في ورش البناء، وقد سقط مرّة من الطبقة الرابعة من ورشة بناء في جرجوع فأصيب بجروح في الرأس والكتفين والساقين، وبات يداوم على علاج ودواء سيلازمانه مدى الحياة. بيد أن المشكلة ليست هنا «بل في عدم توافر فرص العمل» يعبِّر صافي بالإشارة ويردف: «أعمل يومين أو ثلاثة في الشهر بأجرٍ زهيد، وأنتظر بعدها فرصة أخرى، فهل يكفي إنتاج يومين بنحو ثلاثين ألف ليرة لمصروف شهر كامل؟».
    أما أكثر ما ينغّص حياة صافي فهو أنه لم يتمكن حتى الآن من اختيار شريكة حياة، على نحو ما حصل لأشقائه، أو لشقيقه الأصغر موسى الذي سيتزوج قبل انتهاء فصل الصيف، فيما ارتبط حسين، شقيقه الآخر، من بكماء من بلدة حبوش ولهما ولدان: علي وعباس، يتحدثان بطلاقة، ويحتلان المراتب الأولى في صفّيهما.
    وحدها الشقيقة الكبرى لصافي تنطق بنسبة معقولة، لكنها تزوجت من أبكم مقيم في النبطية ولها أبناء أصحاء. أما باقي الأشقاء: محمود، محمد، حسين، موسى، سعدى، وأحمد، فجميعهم بكم. ويعزو جارهم أحمد ملاح سبب نطق الشقيقة «بحسب المتداول في عين قانا، إلى أن والدتها لم ترضعها من صدرها».
    ويوضح الفتى علي أحمد ملاح، ابن شقيق صافي، أنه وشقيقته ووالدتهما يتحدثون مع الوالد الأبكم بالإشارة. يعمل والد علي جزاراً في البلدة وتساعده زوجته في أعمال البيع «يجلس معنا أمام التلفاز، يمرّ مشهد ما أو حديث سياسي قد لا يفهمه، يستفسر، فنشرح له ما دار بالإشارة. أحبه كثيراً وأتلمس حنانه. لكم أتمنى لو أنه يتحدث إلينا بمثل ما نتحدث إليه»، ذلك «أن الكلام أكثر حناناً من الإشارة». ويعتب على أحد رفاق المدرسة الذي «عيّرني بأن والدي أخرس، غضبت منه، لكن هالقد بيفهم».
    خلال الحديث مع العائلة، يصل الشقيق الأصغر موسى (32 عاماً) على دراجة نارية يبدو معتزاً بها. تعلّم موسى في مدرسة البكم في مدينة صيدا، مثله مثل جميع أشقائه الذين باتوا يجيدون القراءة بالنظر والكتابة وهو يعمل في ورش البناء، ينتقل إليها على دراجته التي اشتراها بمبلغ 3 آلاف دولار أمريكي ويحمل إجازة في السوق رقمها 1465418. يعرضها، فقط للعرض، مع بطاقة إعفاء من الخدمة العسكرية، وأخرى من وزارة الشؤون الاجتماعية و«الجمعية اللبنانية لرعاية المعاق». يشرح: «أنتظر حبيبتي حتى تعود من فرنسا، هي مع أهلها هناك، تعرفت إليها في بلدة كفربيت، شرقي مدينة صيدا، ووالدتها من عين قانا». لا يحب موسى «السياسة»، فقط «أحب السيد موسى الصدر» يشير بيده، ويؤكد أنه غير حزين لأنه أخرس «هكذا ولدت، أتمنى أن أحقق حلمي بالزواج ممن أحبها، وأنجب ثلاثة أبناء يتحدثون بطلاقة، وسأعلمهم في أحسن المدارس» نفهم من حركاتهوتنقل زهراء أحمد ملاح عن ابنة عمها هدى، البالغة 7 سنوات أنها تسأل والدتها باستمرار: «لماذا أنا بكماء وغيري يتحدثون؟». أما عن إجادة زهراء لغة الإشارات مع والدها وأعمامها فتقول إنها عندما كانت صغيرة، كانت تراقب والدها كيف يتحدث مع والدتها التي تجيد حديث الإشارات «وصرت أفهم وأعرف ما يدور في البيت، الماما تتحدث وتستخدم الإشارات، هكذا نفعل كلنا عندما يكون والدي في البيت حتى لا يغيب عنه ما يدور حوله».
    وتعلق: «أحياناً أتحدث إلى رفاقي في المدرسة مستخدمة الإشارات من دون انتباه، فأخجل. أتمنى عندما أكبر أن أعمل في مجال البكم ومساعدتهم. لا أخجل من والدي وأعمامي، أهل البلدة يتعاطفون معهم، لكن لا يبادلونهم الزيارات والواجبات العائلية».

    الوراثة عامل أساسي

    يتمنى الدكتور محمد حنينو، ابن البلدة على مؤسسات المجتمع المدني أن تعير البكم اهتماماً أكثر، وخصوصاً لمن هم في الأرياف وتأمين فرص عمل لهم. «صحيح أنهم بكم، لكنهم منتجون، ولا يعني فقدانهم واحدة من الحواس أنهم فقدوا القدرة على الإنتاج والعطاء! العدد الموجود في عين قانا يمكنه تشغيل مصنع حرفي لأنهم على قدر وافر من الذكاء ويتمتعون بمواهب مختلفة». ويقرّ حنينو بـ«أن البلدية والجمعيات التي تعاقبت على البلدة، لم تقم بأي مشروع تأهيل أو تدريب لهم، مع العلم بأن إنتاجهم يمكن أن يكون مضاعفاً لأن الاهتمامات الأخرى قد لا تعنيهم كثيراً. أعترف بأننا مقصرون في حقهم، بدءاً من الدولة وانتهاء بالمؤسسات الأهلية والتطوعية».
    كما يؤكد الطبيب م. نحلة «أن العامل الأساسي في ارتفاع عدد البكم في عين قانا يعود إلى الوراثة والزواج بمن يحملون الجينات من جدّ الأجداد ربما من الوالد أو من الأم على حد سواء، وليس صحيحاً القول بأن الأم هي التي تنقل وحدها هذه الجينات كما هو شائع، ذلك أن الطبّ لم يحسم هذا الأمر أو يسلم به»، مذكّراً بأن «زواج الأقارب قد يسبب أصلاً ولادات معوقة، فكيف إذا كان أحد الزوجين يحمل جينات من هذا النوع؟».
    ويعطي نحلة نموذجاً على بكم من أرنون ويحمر «جرى اكتشاف إعاقة البكم مبكراً عندهم، فخضعوا لعمليات وأدخلوا مدارس متخصصة في مرحلة متقدّمة من حالتهم وهم اليوم يتحدثون بنسبة جيدة». ويوضح أن هناك بعض الحالات في البلدة التي تسمع، لكن بنسبة منخفضة «يمكن أن نعمل على هذه النسبة الضئيلة من خلال عملية تدريب على إيصال ما يمكن من الكلام الذي يتعلّمه الطفل أصلاً بالتواتر منذ الصغر، أما من يفقد السمع بالمطلق فأظن أن من الصعب جداً إيصال اللغة إليه. قد تنجح بعض العمليات من خلال تركيب جهاز داخل الأذن، بمثابة عصب، فيمكن أن يلتقط الأبكم بعدها بعض الكلام» لكنه يعود إلى التاكيد أنه «كلما اكتشفنا الحالات مبكراً، استفدنا من عمليات التدريب والتلقين، واستطعنا دمجهم بنجاح في الحياة العادية، علماً بأن مجتمعاتنا غير ناجحة في استقطاب أصحاب هذه الاحتياجات ويتم التعاطي معهم في كثير من الأحيان كأنهم حالات شاذة»