نقولا ناصيف
ترسم دمشق صورة قاتمة للوضع القائم في لبنان، وتراه مرشحاً لمزيد من التصعيد والتدهور، في ظل استبعادها حلولاً وشيكة. وهي لا تكتفي بمراقبة ما يجري وراء الحدود بذريعة أنها أصبحت خارج الأراضي اللبنانية، بل تجد نفسها معنية بالأحداث الجارية في لبنان لسببين، يُبرزهما مسؤولون سوريون رفيعو المستوى أمام محدثيهم: أولهما وجود حلفاء لدمشق في خضم النزاع الداخلي اللبناني، تتأثر هي بحجم الضغوط التي يتعرّضون لها من الخارج. وثانيهما أنها الطرف الآخر في الحملة التي تقودها ضدها قوى 14 آذار من خلال توجيه الاتهامات.
لكن العاصمة السورية تصوّر، في المقابل، لوحة مختلفة لمقاربتها علاقاتها هي مع الخارج من خلال ملاحظات ثلاث يوردها المسؤولون السوريون. وهي:
1 ـــــ رغم السجال السياسي والدبلوماسي الحاد بين دمشق وواشنطن، لم تنقطع الاتصالات بينهما منذ آخر لقاء على مستوى رفيع بين مسؤولي البلدين، في 4 أيار 2007، في الاجتماع الوزاري في شرم الشيخ لدول جوار العراق، الذي ضم وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ونظيرها السوري وليد المعلم. وتفاوتت أهمية هذه الاتصالات بتفاوت مستوى القائمين بها والجهات المشاركة فيها، بعضها رسمي والآخر خاص غير بعيد عن الإدارة الأميركية. وآخرها قبل أسبوعين عندما زار دمشق وفد ضم جنرالات متقاعدين وأكاديميين وباحثين في مراكز دراسات أميركية أجروا مع مسؤولين وشخصيات سورية قريبة من النظام مناقشات مستفيضة تتصل بالعلاقات الأميركية ـــــ السورية وبملفات سياسية وأمنية، ناهيك بمناقشة موضوع العراق.
وفي سياق الخطوات نفسها، المكمّلة للمحادثات التي أجرتها رايس مع المعلم، المتصلة بالملف العراقي وسبل تحقيق تعاون أمني، حدودي خصوصاً، زار رئيس الاستخبارات العسكرية السورية اللواء آصف شوكت قبل عشرة أيام واشنطن.
2 ـــــ مع أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك أوصد الأبواب الدبلوماسية في العلاقات الفرنسية ـــــ السورية، فإن هامشاً مهماً من هذه ظلّ مفتوحاً، وآخر الاتصالات غير المعلنة بين البلدين زيارة شوكت إلى باريس في طريقه إلى واشنطن. وتربط شوكت بالرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي علاقات خاصة تعود إلى سنوات، وكانا قد تعاونا في السنوات الأخيرة مراراً في ملفات أمنية وذات صلة بمواجهة الإرهاب في البلدين والمنطقة، كما بتبادل معلومات متصلة بهذا الملف. وكان شوكت قد زار باريس العام الماضي واجتمع بساركوزي الذي كان لا يزال وزيراً للداخلية، ناهيك بتطوّر العلاقات الشخصية بين الطرفين مذ زار ساركوزي وزوجته دمشق عام 2000.
على أن المسؤولين السوريين يشيرون كذلك إلى الطابع المستجد لعلاقات البلدين في ضوء الزيارة التي كانت متوقعة للموفد الفرنسي السفير والرئيس السابق للإدارة العامة للأمن الخارجي جان كلود كوسران لدمشق الأسبوع الفائت، وأرجئت. ويحرص هؤلاء على القول إن الزيارة أرجئت ولم تُلغَ، وإنها كانت مقرّرة في المبدأ من دون الخوض في تفاصيلها وبرنامجها، ولذا لم يُصر إلى إعلان إلغائها رسمياً، ولم تتصاعد وتيرة التخاطب بين البلدين ـــــ على غرار ما ساد في حقبة شيراك ـــــ إثر اغتيال النائب وليد عيدو والاتهامات التي ساقتها قوى 14 آذار إلى دمشق بمسؤوليتها عن هذا الاغتيال. كذلك تجاهل البلدان الخوض في زيارة كوسران لأسباب تتصل بتوقيت آخر لها، وبغية إنجاح الهدف منها. ويضيف المسؤولون السوريون أن تطوراً في علاقات البلدين سيطرأ في الأشهر الستة المقبلة من شأنه أن يشكّل، في رأي دمشق، جزءاً من انفتاح الدبلوماسية الفرنسية على سوريا، مع الأخذ في الاعتبار المصالح الفرنسية في المنطقة، وخصوصاً في لبنان والعراق وفلسطين، التي تتقاطع عند العلاقة مع سوريا.
3 ـــــ في غياب أي تفاهم سياسي منظور في العلاقات السورية ـــــ الأميركية، لأسباب يعزوها المسؤولون السوريون إلى الموقف الأميركي المتصلب مما يجري في العراق وفلسطين ولبنان، وإقفال الأبواب الواسعة دون حوار سياسي حول الملفات الثلاثة الساخنة هذه، يظل التعاون الأمني حبلاً سرياً تعلّق عليه آمال حوار سياسي في مرحلة لاحقة. وينطلق المسؤولون السوريون في تبرير حجتهم هذه، من أن مروحة واسعة من الاتصالات والمشاورات والمحادثات الرسمية دارت في الأشهر الثلاثة الأخيرة، على الأقل، على مستويات عالية فتحت قنوات حوار إيجابية مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومع دول أوروبية منفردة، لم تفضِ بالضرورة إلى تفاهم كامل على كل المواضيع العالقة في الخلافات الأوروبية ـــــ السورية والأميركية ـــــ السورية، ولم تفضِ كذلك إلى التراجع عن مسار هذا الحوار ولا الجهر بإخفاق إمكاناته وفرصه وآماله. إلا أنها أجلست الطرفين إلى طاولة واحدة لإجراء مقاربة مباشرة للمشكلات المطروحة. بل كان اجتماع شرم الشيخ، برغم ضآلة النتائج التي توصّل إليها على نحو ما أعلن رسمياً، مفتاحاً خاصاً استيعدت معه علاقات دمشق مع هؤلاء الأفرقاء الذين كانوا قد جاروا واشنطن في مقاطعة نظام الرئيس بشار الأسد، والسعي إلى عزله دولياً وتطويقه بقرارات مجلس الأمن.
على أن الملاحظات الثلاث هذه تبدو، في اعتقاد المسؤولين السوريين، مدخلاً إلى تحديد العلاقات السورية ـــــ اللبنانية التي تراها بلغت، مع بعض الأفرقاء اللبنانيين ـــــ وتحديداً قوى 14 آذار التي تتكوّن منها الأكثريتان النيابية والحكومية ـــــ إحدى أسوأ مراحل علاقات البلدين. ويفضّل المسؤولون السوريون توجيه الانتقاد إلى «السلطة»، أي حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، التي توجّه ما يعتبرونه المسار السلبي في علاقات البلدين، الأمر الذي يدفعهم، أيضاً، إلى التكهّن بظروف صعبة سيشهدها لبنان في المرحلة المقبلة. ويستندون في ذلك إلى الآتي:
1 ـــــ بات لبنان مكشوفاً في المطلق وبلا سقف أمني. وتبعاً لذلك فإن أي حادث، في أي وقت ومكان، مرشح لأن يقع بسبب الخلاف الداخلي بشقيه المتلازمين: اللبناني ـــــ اللبناني واللبناني ـــــ السوري.
2 ـــــ مصير انتخابات رئاسة الجمهورية غامض في ظل توازن القوى القائم حالياً، اعتقاداً منهم بأن أحداً من الطرفين اللبنانيين غير قادر على إجراء الانتخابات الرئاسية بمفرده متجاهلاً الفريق الآخر. أضف أن حدة الصراع السياسي الداخلي ربما دفعت بالوضع إلى خيارات أكثر دقة وحساسية وتعقيداً.
3 ـــــ تبدو دمشق واثقة أكثر من أي وقت مضى بأن تنظيم «القاعدة» بات منتشراً بقوة في عدد من المناطق اللبنانية، وأخصّها في الشمال، الأمر الذي يضاعف من دور الجيش ويعرّض الاستقرار للخطر. ولا يكتم المسؤولون أنفسهم ظنونهم التي يقولون إنهم يبنونها على معلومات من مصادر لبنانية، ومفادها أن الوجهة المقبلة للجيش اللبناني هي الدخول في مواجهة عسكرية مع أنفاق الناعمة ومعسكر قوسايا، بعدما عزّز الجيش مراكز انتشاره حولهما.
أما نشر جنود دوليين على الحدود اللبنانية ـــــ السورية وتوسيع نطاق تنفيذ القرار 1701، على نحو ما تطالب به قوى 14 آذار، فللمسؤولين السوريين موقف منهما.