جوان فرشخ بجالي
يعيد اكتشاف مخازن قمح وعظام حيوانات مفترسة في موقع أثري قرب قلعة صيدا البحرية، كتابة تاريـخ المدينة وعادات أهلها بشكل علمي هذه المرة. هذا أبرز ما خلصت إليه عمليات التنقيب التي قامت بها بعثة من العلماء التابعين للمتحف البريطاني

«كان سكان صيدا في الألف الثالث قبل الميلاد يستوردون القمح من مصر ويخبّئونه في أهراءات بُنيت تحت أرضية غرفة تابعة للمعبد».
هذا هو الاستنتاج الأولي الذي أعلنته مديرة تنقيبات المتحف البريطاني في صيدا الدكتورة كلود ضومط سرحال بعدما أنهت بعثة المتحف عملها لهذا العام في موقعها بجوار القلعة البحرية.
ومن الاكتشافات العديدة التي توصّل إليها علماء الآثار خلال الشهرين الماضيين، كان العثور على 170 كيلوغراماً من القمح المحروق (من فصيلة الحنطة الرومية) مخبّأة في أحد تلك المخازن، بالإضافة إلى مقابر فينيقية وتماثيل رومانية.
ويفتح العثور على هذا النوع من الحنطة، الذي تتميز به مصر الفرعونية، باب التساؤل عن أهمية التجارة بالنسبة إلى سكان تلك المدينة الساحلية.
تشرح سرحال «أن القمح ليس أول إثبات نعثر عليه في هذا الموقع عن وجود حركة تجارة بين صيدا ومصر، فلقد سبقه العثور على عدد كبير من الفخاريات من نوع الجرار الكبيرة الحجم والمصنوعة خصيصاً لحفظ الحبوب، بالإضافة الى بعض «اللقى» المزيّنة بالكتابات. ولكن القمح يؤكد «ضرورة» التجارة لسكان المدن الساحلية الذين تنقصهم المواد الغذائية الأولية. فزراعة القمح مثلاً لم تكن تكفي حاجة السكان، لذا كان يُستورَد من مصر التي تأخذ بالمقابل الخشب على أنواعه... وهذا ما يُذكر أيضاً في العهد القديم من الكتاب المقدس حينما طلب أحيرام ملك صور من الملك سليمان أن يدفع له ثمن بناء الهيكل قمحاًتجدر الإشارة إلى أن ســــــبب عدم زراعة القــــــــمح في ضواحي هــــــــذه المدينة في العصر البرونزي قد يعود إلى النظام البيئي الــــــذي كان سائـــــــــداً في تلك الفترة، والذي يختلف كلياً عن الحال اليوم. وهذا أيضاً ما تؤكده المكتشفات في هذه التــــــنقيبات الأثـــــــرية. توضح سرحال أنه كان «قد عُثِر في إحدى غرف الموقع على كمية هائلة من عظام حيوانات مفترسة: أسود، أفراس نهر ودببة، وتنتمي كل تلك العظام إلى ذكور الحيوانات، وهي حفظت آثار تجريد اللحم عنها، ولم يُعثر على رؤوسها». وهذا ما سمح لسرحال بطرح نظرية عن «احتمال وجود طقوس دينية خاصة بالصيادين الذين يقتلون ذكور الحيوانات، أي رمز السلطة، فيأكلون لحمها للحصول على قوتها وشجاعتها».
أما عن محيط المدينة البيئي في العصر البرونــــزي، «فلا بد من أن غابات كثيفة تسكــــنها شــــــتى أنواع الحيوانات المفترسة كانـت تنمو قرب مصب الأنهار وعلى التلال المحيطة بصيدا، لكن قطع الأشجار المستمر لغايات تجارية غيّر هذا الشكــــل البيئي، ما أدى الى اندثار تلك الحيوانات».
ويطرح اكتشاف الحنطة في مخازن تحت الأرض، وعظام الحيوانات في إحدى غرف هذه الأبنية، تساؤلاً آخر عن آلية استعمال هذا الموقع في تلك الفترات. تؤكد سرحال أن هذا الموقع من المدينة «لم يستعمل كمسكن عادي إنما كان له دائماً مكانة مهمة. فهو قد يكون تابعاً للمعبد ومن ضمن أهراءاته، وهذا ما يفسّر وجود أبنية ضخمة تقسم إلى عدة غرف، ويستعمل الطابق السفلي فيها مخازنَ للحبوب. وقد يكون جزء من هذا المبنى قد استُعمل لشعائر دينية كتلك المتعلقة بأكل الحيوانات المفترسة أو إقامة ولائم كبيرة تنتهي بكسر الصحون عنوةوكانت البعثة قد عثرت السنة الماضية على أرضية غرفة مليئة بالصحون المكسّرة وبقايا طعام. ويعود تاريخ القطع التي عُثر عليها إلى الفترة الممتدة بين 1550 و1500 ق.م.، وكانت هذه «العادة الشعائرية» قد اكتُشفت من قبل في موقعين مختلفين هما: مدينة إبلا في سوريا وموقع تل دبعا على دلتا النيل في مصر. فما هو هذا الاحتفال الذي كان يُقام حول وليمة ضخمة يعمد الضيوف، بعد تناول الطعام، الى تكسير كل الصحون برميها على الأرض ومغادرة الغرفة؟
تساؤل يبقى من دون جواب علمي، ولكنه يؤكد أهمية الولائم لأهالي هذه المدن. وتشير سرحال الى «احتمال أن تكون هناك طقوس شعائرية تدور حول الولائم ومرتبطة بدفن الأموات، ذلك أن علماء الآثار وجدوا قرب كلّ مدفن اكتُشف خلال السنين الماضية تنّوراً. والتنّور هو الفرن الذي كان يُستعمل لطهو المأكولات وتحضير الخبز». وولّد تلاحق هذه الاكتشافات تساؤلاً: هل كان الأهل يجتمعون حول المقبرة بعد شعائر الدفن ويقيمون وليمة في ذكرى الوفاة والمرور إلى العالم الثاني؟ تساؤل آخر لن تعرف إجابته الحتمية إلا إذا عُثر على نص يصف شعائر الدفن في صيدا في تلك الفترة... بانتظار ذلك تبقى النظرية سيدة الموقف.
ولا تقتصر النتائج المذهلة التي تتوصل إليها هذه البعثة الأثرية، على حقبة معينة، إذ عثر أعضاؤها داخل بئر روماني على 500 تمثال صغير من الفخّار وعلى تحفة لإلهة الجمال فينوس منحوتة في الرخام الأبيض. هذا التمثال، الذي يعلو 30 سنتيمتراً وفقد رأسه، هو قطعة تُعرض في المتاحف لجماله ودقّة نحته.
وتتخطّى أهمية التنقيبات الأثرية التي تقوم بها بعثة المتحف البريطاني منذ تسع سنوات، المكتشفات لتصل إلى كتابة تاريخ صيدا بشكل علمي للمرة الأولى بعدما كان مجرّد تكهّن يرتكز من جهة على بعض اللقى الأثرية ومن جهة أخرى على الكتابات القديمة. أما الآن فهناك إثباتات حسية ودراسات علمية عالية المستوى عن التجارة والشكل الهندسي وطرق البناء في العصر البرونزي (3200 – 1200 ق.م) وعن شعائر الدفن والحياة والتجارة في العصر الحديدي أو الفترة الفينيقية (1200 – 333 ق.م). هذا بالإضافة إلى الكمّ الهائل من اللقى الأثرية الجديرة بالعرض في المتاحف التي عُثر عليها في هذا الموقع.
كلّ هذا يؤكد ضرورة إقامة متحف في مدينة صيدا يخبر تاريخ المدينة، فهل تبادر إلى إنشائه المديرية العامة للآثار، أو على الأقل تنظيم معرض لتلك القطع المكتشفة حتى يتمكّن أبناء المدينة وغيرهم من التعرف بهذا التاريخ الغني كي لا تبقى تلك المعلومات ضمن الإطار العلمي البحت.