جان عزيز
في حمأة الوساطات والمبادرات والسباق مع المأزق، على إيقاع استحقاقات 5 آب و25 أيلول و24 تشرين الثاني، عرف الياس المر كيف يجعل من الأسبوع الجاري بعضاً من زمنه المستقل.
قد يكون السبب أصلاً ندرة كلامه الإعلامي، وقد يكون كثافته النسبية هذا الأسبوع، في ظل حديثين صحافيين، مكتوب ومرئي. وقد يكون السبب تقاطع موقعه في اليرزة مع الحدث الشمالي. وقد يكون أخيراً دلالات كلام هذا الشخص، وهو الواقف على عقدة من التشابكات بين السلطة والمعارضة، بين أطراف عائلاته بتشعباتها، بين المتهم بالقمع سابقاً والناجي من الشهادة لاحقاً، بين الجيش و«المقاومة»، والسياسة...
على خلفيّة هذه المعطيات، وغيرها الكثير، يبرز كلام الياس المر هذا الأسبوع. وخلاصته العامة: محاولة الخيار الثالث. والمحاولة حرص المر على نسجها خيطاً خيطاً في كل لوحة الوضع العام، وفي مختلف عناوينها. مع الحفاظ على رابط موحِّد في كل تعرجات المحاولة، وهو الكلام اللبناني، الذي يدرك قارئه أنه صادر عن مسيحي
أرثوذكسي.
ففي المسألة الأكثر سخونة، معركة نهر البارد، أظهر المر أنه وزير دفاع. وهي صفة كان قد افتقدها فترات طويلة منذ انطلاقة الحكومة الحالية أواخر تموز 2005. حتى أنه تلقّى انتقادات لاذعة بسبب ذلك. فانتُقد يوم تحدث عن عزمه على تنظيم الأجهزة الأمنية، وهو ما بدا أنه ضرورة، بدليل كل الوضع الراهن.
وانتقد حين اندلعت المعركة الشمالية في 20 أيار الماضي في ظل سفره للمعالجة وصمته الذي استغرق أقل من يومين آنذاك. وانتقد حين عاد على صهوة حسم المعركة، والذخيرة الأميركية والمهل الزمنية للنصر. غير أن المر بدا في اليومين الماضيين كمَن ينجح في رد النقد، بالبرهان وكلام
الأرض.
أما في موضوع السياسة اللبنانية وملفاتها المأزومة، فكان خيار المر الثالث أكثر وضوحاً وبلورة. بعض السلطة يقول إن «فتح الإسلام» اختراع سوري بحت؟ لكن وزير الدفاع لا يتردد في التأكيد على ارتباط هؤلاء بالقاعدة. خطاب بعض 14 آذار يتحدث عن «عصابة»؟ يؤكد المر أنهم «تنظيم». حتى أن تمايز المر ذهب أبعد، بالغمز من قناة زميل وزاري له، وحتى بالغمز من قناة جهات أمنية من غير
وزارته.
وفي المقابل لم يكن التمايز عن قوى المعارضة أقل ظهوراً. في الأجهزة، انتقاد واضح لأشخاص مصنّفين في خانة المعارضة، وإن جاء في الشكل على قاعدة تقويم الخبرات والكفاءات. في الانتخابات، مع تزكية أمين الجميل في فرعية المتن الشمالي، وإن كان الخيار النهائي ملتزماً نهج الوالد، مع تقاطعات هذا النهج وتحالفاته الحالية. وفي عمل الحكومة يظل حضور المر على طاولة مجلس الوزراء، الناقص بستة من أعضائه وطائفة كاملة من الميثاق، أبرز الأدلّة على
التمايز. لكن أين «يُصرف» هذا الخيار الثالث الذي حاول المر بلورته، أو هو يجسده فعلاً؟ كيف «يُقرَّش» في السياسة اللبنانية العملية، وفي ظل جدرانها المتعالية اليوم؟
يرى البعض أن هذا الخيار اللاانحيازي الجديد، بات يملك في الأيام الأخيرة أكثر من عامل قوة وزخم ودفع، أولها حسم المعارك العسكرية في الشمال، مع ما يعني ذلك من رصيد متنامٍ لمؤسسة الجيش. وهو العامل الذي ألمح المر إلى حرصه الكامل على عدم تجييره أو استثماره في غير
مكانه.
وثانيها الحركة الدولية المتعاظمة خصوصاً عبر المحور الباريسي، بحثاً عن حلول للأزمة اللبنانية، وعن مخارج لاستحقاقاتها الضاغطة على الأشهر الأربعة المقبلة. وثالثها علاقة الثقة القديمة بين المر وواشنطن، وهي علاقة تعززت أكثر نتيجة المعطيات الراهنة، لجهة وضع الجيش وموقع المر نفسه والوضع المأزوم والخيارات الممكنة أميركياً. ورابعها وأخيرها، تسليم جميع الأطراف بأن المر سيكون حاضراً في عقدة مواقفه المذكورة كلها، لمتابعة التطورات المقبلة، في شتى احتمالاتها واتجاهاتها. فإذا قامت حكومة وحدة وطنية، يكون هو قرب «مفتاح الحل»، وإذا حصل محظور الفراغ، يكون هو في قلب صمام عدم الانفجار. وفي الحالتين، يبدو المر مدركاً لأهمية خياره الثالث، ومتشبثاً بكلام لبناني، يوحي بقائلٍ مسيحي.
هل يفتح هذا الواقع الباب للعب المر الابن دوراً مشابهاً لأدوار المر الأب في استحقاقات مماثلة سابقة؟
أم هي مصادفة «أن تكون هناك» في ذروة الأزمات المستعصية والأفق المسدود؟
الجواب رهن بنتائج استحقاقات آتية، وبوقوعها بين أي من الخيارات الممكنة، السلطة، أو ضدها، أو الخيار الثالث.