جان عزيز
ما الذي تغيّر فعلاً حتى تبدّلت لهجة سعد الدين الحريري، من الدعوة الملحّة للقاء كل من نبيه بري، ميشال عون وحسن نصر الله، مروراً بإعلانه قطع كل قنوات الحوار، وصولاً إلى التحريض على «حزب الله»، بعد حادثة تفجير القوات الدولية، بالتلميح إلى أن العملية حصلت «في غمرة التهويل المتواصل باستهداف قوات الطوارئ الدولية، التي صدرت على لسان جهات معروفة الولاء الإقليمي»؟
القراءة الأوليّة والسطحيّة لتغيير الخطاب الحريري المذكور، ترى بكل تبسيط أن قطع الحوار بعد دعوات اللقاء، جاء على خلفيّة اغتيال المغفور له وليد عيدو. كما أن الاتهام المبطّن أول من أمس سيق على وقع انهيار المبادرة العربية. غير أن المطّلعين على خفايا الأمور وحقائقها يشيرون إلى احتمال أن تكون العلاقة السببية بين هذه الأحداث معكوسة. فتكون النتيجة الظاهرة سبباً مخفيّاً، والسبب المعلن مجرد ذريعة.
أما القراءة الحقيقية لجوهر المأزق فيعزوه المطّلعون إلى الأجواء السائدة حالياً في واشنطن، وتحديداً في الحلقة المعنية بالوضع اللبناني وبحركة المنظومة الحريرية فيه. إذ يؤكد هؤلاء أن ثمة مناخاً سائداً في العاصمة الأميركية على هذا الصعيد، مطابقاً للمناخ الذي ساد عشية انكشاف فضيحة إيران ــــــ كونترا غيت. فالدوائر السياسية والإعلامية في واشنطن تلهج بالحديث عن «التورّط» في دعم الجماعات السنّية الأصولية في أكثر من بلد شرق أوسطي، بينها لبنان، وبالتحذير من افتضاح هذا النهج.
ويروي الواشنطنيون أن مرجعية سيمور هيرش في هذا المجال لم تعد وحيدة. رغم الكلام المتقدم عن اكتشافات مثيرة توصّل إليها الأخير في مجال قنوات التمويل. لكن وسائل التواصل الأميركية باتت تحفل يومياً بالكلام المماثل، تماماً كما إعلام القارة القديمة.
وجاءت أحداث نهر البارد ومخيّمه الشهير لتسعّر الاتهامات: الإذاعة البريطانية دأبت طيلة أسبوعين على نقل شهادات لنازحين من المخيم، تؤكد تورّط فريق السلطة اللبنانية في ابتكار «فتح الإسلام». صحيفة «واشنطن بوست» كتبت بقلم إيلين نيكماير في 17 الجاري تحقيقاً من أرض المعركة في طرابلس، يلقي الضوء على العلاقة بين التيار السنّي السلفي في شمال لبنان وسعد الدين الحريري. القاسم المشترك مواجهة «حزب الله». «وجوه بارزة في الجماعة السلفية يعملون كوسطاء مع الحريري»، قالت الصحيفة الأميركية الرصينة. لتنقل لاحقاً عن داعي الإسلام الشهال: «هناك علاقة بيننا وبين الشيخ سعد الدين حين تدعو الحاجة... القوّة السياسية السنّية الكبرى هي الحريري. والقوّة الدينية السنّية الكبرى هي السلفيون، لذا فالأمر طبيعي».
غير أن الرواية الواشنطنية الكاملة عن سيناريو «فتح الإسلام ــــــ غيت» تظل في ما كتبه الباحث الأميركي فرانكلين لامب قبل شهر على صفحات موقع «كاونتر بانش». ذلك أن لامب يتّهم أحد أفرقاء السلطة اللبنانية بالوقوف كلياً خلف التنظيمات الأصولية السنّية المتحركة في لبنان، وفي طليعتها «فتح الإسلام». ومن قلب مخيم نهر البارد، حيث يقول إنه دخل متخفّياً، يزعم لامب أن هذا «التيار» موّل الإرهابيين وأمّن لهم الشقق في طرابلس. ويذهب إلى حد القول إن حادثة السطو على المصرف التي فجّرت المعركة، كانت في سياق انتزاع الرواتب المستحقة. ويرسم لامب قراءة كاملة لما يسميه «نادي ولش» اللبناني، في إشارة إلى دايفيد ولش، ويعدّد أعضاءه اللبنانيين، ويشير إلى تآمرهم على الجيش، لتسهيل توطين الفلسطينيين من جهة، ودفع المسيحيين إلى خيارات معاكسة لواقعهم الراهن من جهة أخرى.
ما علاقة هذه القراءات بما يحصل اليوم في لبنان؟ المراقبون والمواكبون لأجواء واشنطن يؤكدون أن شبح «فتح الإسلام غيت» بات هاجساً يقضّ مضاجع الكثيرين بين بيروت وواشنطن منذ أسابيع. ويعتقدون أنه في سياق هذا الهاجس ومحاولة تلافيه، توجّه الحريري إلى نصر الله طالباً لقاءه. رفض الأخير واشترط حكومة الوحدة والتسوية الشاملة مع حلفائه، وفي مقدمهم ميشال عون. أرسل الحريري 3 وسطاء إلى نصر الله لحلحلة الرفض. بعضهم تحدّث بصراحة كاملة: تعالوا نُعِد ترميم الحلف الرباعي. أصرّ نصر الله على مطالبه. صار الحرج مضاعفاً في الجانب الآخر، وصار الوقت داهماً. فجأةً اغتيل وليد عيدو. دم النائب البيروتي نقل المواجهة إلى مستوى آخر. على وقع اتهام النظام السوري بالجريمة، طويت المحاولة وتم تخطّي فشلها. غير أن الضغط الأميركي ظل قائماً. من واشنطن تتسارع الروايات المنقولة: ديك تشيني لم يعد يرد على اتصالات بندر بن سلطان. أمير سياسة «إعادة التوجيه» بات لاجئاً سياحياً في منتجع أسبن في كولورادو الأميركية، حيث «ليس هناك مَن يراسله». الخناق يشتدّ. صور أوليفر نورث كثيرة الوجوه الراهنة. فجأةً تُستهدف قوات «اليونيفيل». غداً مرحلة جديدة من الهروب إلى الأمام. تحويل القرار 1701 إلى الفصل السابع ربما. أو الإقرار بتحوّل لبنان أرض جهاد فعلي لتنظيم القاعدة. المهم الهرب من الحقائق، وفي هذه الأثناء لا ضير من إحراق بلد مليء أصلاً بالأكاذيب والأوهام...