strong>رنا حايك
  • الجيل الجديد طوّر بعضها، والقديم ينتظر «ترضية» من المالكين

  • بينما تبدّل المدينة معالمها،وتكتسي حلّة العصرنة والبذخ لتبيع الصورة السياحية الجذّابة، تحتفظ بعض تعاريجها بالشواهد على الزمن الذي كان. في الجمّيزة تنتشر «النُّزل» القديمة، بعضها جُدِّد والبعض الآخر لم يُجَدّد لأسباب لا يجاهر أصحابها بها بل يكتفون بالتلميح إليها. لكلّ مكان قصة، وللمدينة التي
    تلفظ تاريخها قصص


    تعبق رائحة خمسينيات بيروت في أنحاء منطقة الجمّيزة. تشي الأبنية القديمة بأسرار المدينة التي لم تعد تشبه نفسها اليوم. تجّار ساحة البرج، البواخر التي رست في المرفأ، كلّ زائري المدينة ـــــ الحلم مشوا في هذه الأزقة، ارتادوا حاناتها وناموا في فنادقها. عشرون فندقاً تقريباً افتتحها في المرحلة ذاتها أهالي قرى راشيا وحاصبيا. توافدوا في السبعينيات إلى منطقة المرفأ، جمعوا مدّخراتهم واستثمروا في العاصمة. جنوا الأرباح وعاشت عائلاتهم من عائدات هذه المصلحة. ثم كانت الحرب، فتصدّع ما تصدّع، واحتُلّ ما احتُلّ. بعدها غابت التعويضات عن المستأجرين، ورغم إعادة التقويم التي طالت الإيجارات القديمة فقد بقيت هزيلة لا ترضي مالكاً قد يستفيد الضعفين فيما لو هُدِم المبنى وشُيِّد مبنى حديث مكانه. النتيجة: أماكن مهمَلة في معظمها تضيع في لعبة المدّ والجزر بين تعنّت الطرفين: المالك والمستأجر.
    إلا أن الإهمال لم يَطَل جميع «النُّزل»، فبعضها أنقذه الحسّ التجاري للجيل الجديد من أبناء المستأجرين، الذين رمّموها وحدّثوا خدماتها، فحشدوا زبائن وصنعوا اسماً من دون أن تدرجهم وزارة السياحة في قوائمها التسويقية.

    فنادق.. مع وقف التنفيذ

    يحتلّ «نزل الأدباء» الطابق الأول من المبنى المحاذي لـ«مقهى بول» في الجمّيزة. تفوح عند مدخله رائحة التوجّس، تختلط بروائح كريهة فتصدّر إحساساً بالوحشة يدعمه سلوك العامل السوري الذي يدير الفندق حين يمتنع عن إعطاء أي معلومة عن المكان. صور السيدة مريم تحاذي صورة وليد جنبلاط على المنضدة أمامه. يتمدّد بعض الشباب على أسرّة تميل ملاءاتها البيضاء إلى اللون الرمادي، بينما يحتسي بعضهم الآخر القهوة في المدخل المفروش بكنبات بالية قماشها ممزّق. يؤجّر صاحب النزل، حسين أبو لطيف، السرير بـ 4 آلاف ليرة في الليلة، بعدما كان هذا المبلغ إيجاراً سنوياً اتفق عليه مع المالك عام 1969. عدّل الإيجار بعد عام 1975 وأصبح اليوم مليونين ونصف مليون ليرة. يشكو الرجل الثمانيني من عائدات المصلحة التي بالكاد تكفي لسدّ مصاريف إدارة النزل. لماذا المحافظة عليه إذن؟ يجيب بنبرة شاكية: «لأنني لا أستطيع أن أرمّم من دون موافقة المالك، ولأنني إن أقفلت الأوتيل فسيوجّه إليّ إنذاراً. أما خيار أن أترك الفندق نهائياً، فغير وارد إذا لم يرضِني. لقد دفعت خلوّاً باهظاً في الستينيات عملت عشر سنين في أميركا لأدّخره. هذا رأسمالي، فكيف أرضى بالخلوّ الهزيل الذي يعرضه عليّ المالك الآن لأترك المبنىتختلف حال «نزل الشهباء» قليلاً عن حال «نزل الأدباء». فمستوى النظافة أعلى في الفندق الذي يحتل طابقين من مبنى عمره نحو مائة عام كما يفيد صاحبه سليمان بدر الدين. ورث سليمان إدارة المكان عن أبيه. وبعد إقفال دام منذ اندلاع الحرب الأهلية حتى عام 1996، كان المكان يحتاج إلى ترميم، إلا أن سليمان امتنع عن ذلك تجنّباً لاستفزاز المالك. تقتصر تجهيزات الفندق المتواضعة على التلفزيون والراديو ومطبخ مشترك للنزلاء. يشكو سليمان بدوره من قلّة الزبائن منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري، فبعد أن كان الفندق يعجّ بالزبائن السوريين والعرب (أردنيين ومصريين) والأجانب، خفّت الحركة في السنتين الأخيرتين، وهو ما اضطرّه إلى خفض الأسعار. وبعد أن كان يؤجّر السرير بـ7 آلاف ليرة في الليلة، والغرفة بـ20 دولاراً، خفض سليمان إيجار الغرفة إلى 15 ألف ليرة في الليلة. وبعد أن كانت العائدات تصل إلى ألف دولار في الشهر، تراجعت كثيراً هذه الأيام، فأصبح سليمان يعتمد على الراتب الشهري الذي يتقاضاه من المعهد حيث يدرّس مادة الهندسة. لا يتكّل على الفندق كثيراً، لكنه لا يفكّر في إقفاله، فمردوده عال حين تكون الأوضاع جيدة، والخلوّ المعروض عليه غير مغر كما نستشفّ من حديثه المتحفّظ على هذه النقطة.

    محاولات التحديث

    عاد طلال إلى لبنان منذ سبع سنين بعد هجرة طويلة في كولومبيا. آثر أن يفعّل مصلحة أبيه، مدير الأوتيل الذي يحمل اسمه (بانسيون طلال)، بدل أن يبدأ مصلحة جديدة. يتحدّث عن اختلاف مفهومه عن مفهوم أبيه وزملائه من الجيل الأسبق. فهؤلاء «لا يرمّمون، يقولون لك بالدارج «من دِهنه سَقّيلو» وبما أن الفندق متهالك فهو يستقطب فئة معيّنة من الزبائن وتبقى خدماته محدودة». صرف طلال ما ادّخره لتجديد الفندق: مكيّفات هواء، غرف ومطبخ وحمامات نظيفة، خدمة الإنترنت المجانية، سيارات تابعة للفندق تؤجر للنزلاء وخدمات متعددة كالنقليات من المطار وإليه. يرتاده السيّاح العرب والأجانب. لم تُدرِجه وزارة السياحة في دليل الفنادق المزدحم بإعلانات الفنادق الفخمة، إلا أن ذلك لم يمنع اسمه من الانتشار عن طريق التواتر على ألسنة النزلاء. تسع غرف، تؤجر المفردة منها بـ16 دولاراً والمزدوجة بـ20. الأسرّة تؤجر أيضاً بـ7 دولارات في الليلة. عامل واحد يهتم بنظافة الفندق وطلبات الزبائن. يحب طلال مصلحته ويعترف بأنها تدرّ مدخولاً عالياً في «الأيام الجيّدة» يصل إلى 4500 دولار في الشهر. أما الآن، فبالكاد يجني نصف المبلغتساعد هالة أباها على إدارة «بنسيون النزيه» بعد أن هاجر إخوتها التسعة إلى كندا. تفوح رائحة الألفة والحميمية في المكان. الألوان الدافئة التي تكسو الجدران والنظافة المشعة في أرجائه تعكسان جواً أسرياً دافئاً. استأجره فؤاد أبوعسلي عام 1974، ثم جاءت الحرب، فعاد إلى راشيا. احتلت عائلة مهجّرة الفندق لمدة 18 عاماً، فشل في الحصول على تعويض من وزارة المهجرين، فرمّمه بعد مغادرتهم على حسابه عام 1996. إلا أن التحديث تمّ عام 2004 على يد الابن ميشال المقيم في كندا. كان الأب يتّكل قبل الحرب على الزبائن العرب من «تجار الشنطة» ومضيفي الطيران وركاب البواخر الراسية في المرفأ. أما بعد هذا التحديث، فقد استقطب الفندق الأجانب خصوصاً أن له موقعاً إلكترونياً يعرّفهم به. ورغم الحالة المميزة التي أصبح الفندق عليها، فإن الأسعار لم ترتفع كثيراً، فهي متواضعة جداً مقابل الخدمات المتوفرة ونوعيتها الجيدة. كانت هالة تعد نفسها بصيف مزدحم لو لم يعمد معظم الزبائن إلى إلغاء حجوزاتهم خوفاً من الوضع الأمني. لم يمرّ التجديد على خير، فقد رفع المالك دعوى على آل أبو عسلي لكنهم ربحوها.. هذه الأسرة التي يعيش معظم أفرادها في الخارج لا تنوي إقفال مصلحتها.

    نزل «لبنان الجديد»

    أغرق تنازع المصالح بين المستأجر والمالك بعض الفنادق في دوّامة الإهمال، نجا بعضها على يد الجيل الجديد من الأبناء، أما نزل «لبنان الجديد» الذي يحتلّ أحد أقدم مباني شارع مونو، فقد نجح في الحفاظ على مستوى عال من الجودة منذ ستين عاماً حتى اليوم. استأجرته «الشيخة» أدما مع أخيها بـ12 ألف ليرة في السنة عام 1947 في حي المطابع (المنطقة المحيطة بنادي الباسيفيكو حالياً)، قرب مقهى «حبّوبة» حيث كانت تقدّم فيه القهوة والشاي للعمال. استقطب النزل أهالي الجبل الذين يأتون إلى بيروت لقضاء مصالحهم الحكومية، وتجار البرج. ومع الوقت توسّعت الشريحة، فأتى طلاب من البلاد العربية وأتى فنانون، منهم رشدي أباظة وسميرة توفيق، لا تزال صورهم تشهد على زياراتهم، ويأتي الآن لبنانيون وسياح أجانب. يعلّق الابن، عمر نصر، أهمية قصوى على نظافة الفندق الذي يديره، ولا يقتصر مفهومه للنظافة على المستوى المادي، فالنظافة المعنوية تتمع بالأهمية ذاتها: «الحكي بالسياسة ممنوع بين النزلاء»، وللاعتبارات الإنسانية والأخلاقية الأولوية لديه، الأمر الذي جعله يشرّع أبواب فندقه لاستقبال النازحين خلال عدوان تموز الماضي.
    يمثّل هذا الفندق مورد الرزق الوحيد لعمر، وهو ما يعدّ مخاطرة في بلد «يعيش على كف عفريت»، فمبلغ الـ4 آلاف دولار الذي يجنيه حين تكون الأوضاع السياسية هادئة يصل إلى نحو مليون ليرة في الشهر في مراحل كالتي نمرّ بها الآن. يقول إنه قد يقفل إذا استمر الوضع على ما هو عليه، مع أنه يدرك تماماً الأهمية الرمزية لاستمرار الفندق حالةً تذكّر مظهراً ومضموناً بالمدينة التي كانتها بيروت... فهل يلتفت محدّثو القوانين إلى أزمة الإيجارات القديمة حتى لا تختفي الشواهد الأخيرة على روح المدينة وذاكرتها؟




    نسبية المعايير

    تدخل فتاة خلال إجراء المقابلة وتسأل مدير الفندق عن إيجار الغرفة لأن صديقاً لها سيزور لبنان بعد أسبوعين. تشترط: «لكنني سأزوره في غرفته. مسموح؟» يطمئنها، فتحجز الغرفة وتغادر. يسمح هذا الفندق باستضافة غير المتزوجين من النزلاء في غرفة واحدة، ويقدّم البيرة لمن يرغب باحتسائها. ويؤكد مدير فندق آخر على ضرورة تأجير هذا النوع من النزلاء، فتأمين المكان الذي يحتضنهم أحسن من «المناظر التي نراها في السيارات المتوقفة على جانبي الطريق في الجميزة بعد انتهاء السهرة». إلا أن هذا التبرير لا يكفي صاحب فندق ثالث، ويؤكد أنه يفضّل إيواء العائلات، وزبائن «الساعتين» كما يسميهم لا يهمّونه، فهو يريد الحفاظ على سمعة المكان وراحة نزلائه. لذلك فهو يمنعهم مثلاً من احتساء المشروبات الكحولية في صالة السهرة، احتراماً لمشاعر النزلاء الآخرين وحفاظاً على مشاعرهم. ويذكر فضيحة نزل صنين الذي ختم بالشمع الأحمر بعد أن أدين مديره بالاتجار بالمخدرات وبتسهيل أعمال الدعارة.
    تختلف المعايير الأخلاقية من صاحب فندق إلى آخر، إذ يحدّد كل واحد منهم منظومة القيم التي يتبعها لإدارة المكان وبالتالي نوعية الزبائن الذين يتوجّه إليهم.

    «مهنة»... الفراسة

    تجسّد الفنادق المتواضعة نموذجاً مصغّراً عن العالم الخارجي. يدرك مديروها هذا الأمر وينمّون مع الوقت مهارات في الفراسة يطبّقون معاييرها على الزبائن المحتملين الذين يطأون عتبات فنادقهم. في هذه الفنادق، تنشأ علاقات إنسانية فريدة بين النزيل والمدير، وتُنسَج آلاف القصص عن المهمّشين.
    هالة تحبّ الحفاظ على «نزاهة» بانسيون النزيه كما تقول، فتفضّل الزبون الأجنبي على العربي لأن هذا الأخير غالباً ما «يتحرّش بالنزلاء من النساء ويزعجهن»، أما الأجنبي فـ«ما بيوجّع الراس وما بتحسّي فيه».
    ويفهم طلال ما هو الزبون ما إن يدخل. يحب تنوّع الطبائع البشرية الذي يراه في عمله، ويقول إنّ أهمّ شيء في هذه المصلحة «أن تعرف كيف تتعامل مع كل زبون، تحدّثه وتفهّمه بطريقته».
    يؤدّي الاختيار الموفّق للنزلاء إلى نشوء علاقات وطيدة بين صاحب الفندق والنزيل. فسليمان ما زال يذكر تلك العائلة الفرنسية التي اصطحب أفرادها إلى الشوف وعرّفهم بالأماكن السياحية ثم استضافهم في منزله على الغداء. هذه العلاقة أثمرت مراسلات امتدت لعدة سنوات لاحقة، رغم أنه يطلق على الزبائن تسمية «الركاب»!
    أما علاقته بسائق التاكسي والنزيل لديه، مهدي، فتختلط بين العشرة والصداقة والعمل. فسليمان «يراعيه» في السعر، ومهدي يحل محلّه في غيابه، ويدير المكان.
    ويؤكد عمر أن لراحة النزلاء ومناخ الفندق الأولوية، فهو «يعرف الزبون المحترم ما إن يراه» ولو عرض عليه ألف دولار في الليلة لا يؤويه إذا كان مريباً. وقد بدأ بالتشدّد أكثر بعد حادثة سرقة تعرّض لها أحد النزلاء على يدي نزيل آخر كان يشاركه الغرفة. عمر لا يهمل علاقاته بالنزلاء ولا يزال يتذكر الأستاذ الياس أبو خالد الذي أقام مع ابنه في الفندق لمدة 53 عاماً، حافظ على الفندق وصانه خلال فترة الحرب حين اضطر عمر وأهله للنزوح إلى الشوف هرباً من أتونها. كبر الأستاذ الجامعي ولم يكن لديه عائلة غير آل نصر. فاهتموا به وأودعوه داراً للعجزة.
    أما موظف البنك الذي يقيم لديه منذ 7 سنوات، فهو ابن النزيل الذي مرض في الفندق ونقله آل نصر إلى المستشفى حيث توفي. حضنت الشيخة الابن فناداها بـ«ماما» وأصبح كأنه فرد من العائلة.
    يستقطب هذا النوع من الفنادق عابري السبيل وعابري الحياة والمهمّشين الذين تلفظهم المدينة فيحتمون بجيوبها. في هذه الفنادق دفء تفتقده بيروت مع الوقت، وبين جدرانها قصص لا تنتهي عن أشخاص تتنكّر بيروت لهم فيبحثون عنها أكثر ويستعيدون روحها بالإلفة التي تنشأ فيما بينهم في هذه الأماكن.