نقولا ناصيف
بعد سقوط الحوار الداخلي من تلقائه وفشل الوساطة العربية، ليس ثمة ما يبعث على الاعتقاد بأن مؤتمر سان كلو للحوار في فرنسا ـــــ إذا عُقِد منتصف الشهر المقبل ـــــ سيكون أحسن حالاً بمتحاوري الصف الثاني. يُذكّر ذلك باليوم الثاني من مؤتمر الحوار الوطني في مجلس النواب التي عُقِد في 3 آذار 2006، وتغيّب عنه رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط لسفره يومذاك إلى الولايات المتحدة. حلّ في مقعده الوزير غازي العريضي وناقش بتصلّب، فارتأى المجتمعون تأجيل الجلسة لخلاف على البنود لأن العريضي ـــــ وهو ليس من رجال الصف الثاني ـــــ ليس مفوّضاً القرار نيابة عن سيد المختارة. وذاك ما سيكون عليه مصير مؤتمر سان كلو بممثلين من الصف الثاني، غير مفوّضين، ولا يحملون أختام اتخاذ القرار نيابةً عن زعمائهم.
وسواء عرف الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى بسابقة آذار أم لا، فقد نصح المسؤولين والسياسيين الذين التقاهم عقد طاولة حوار في بيروت بدلاً من باريس بممثلين من الصف الثاني في وسعهم مراجعة زعمائهم في المواقف فوراً وبلا استمهال.
كانت الخلاصة الأولى لمهمة موسى في بيروت أن كلاً من طرفي النزاع يريد الحوار بشروطه هو. بعدما أصغى إليهما موسى في جولة أولى من الدوران على آرائهما واقتراحاتهما استخلص ثلاثة البنود وجد أنها القاسم المشترك بينهما، هي حكومة الوحدة الوطنية وانتخابات رئاسة الجمهورية والوضع الأمني. وأجرى جولات حوار إضافية معهم انتهت بأن الفريقين يتفقان على البنود، ويختلفان عميقاً على ما يريده كل منهما من كل بند على حدة. فغادر لبنان، وطرفا الحوار لم يتزحزحا عن شروطهما.
والخلاصة الثانية أنهما لا يطلبان الحوار في مدى قريب. والأصح أنهما يريدان الاستمرار في التصعيد، من غير أن يكون مؤكداً هل ثمة سقف لهذا التصعيد أم سيكون مفتوحاً على الانهيار؟
يعبّر عن هذا المنحى أن قوى 14 آذار والمعارضة تخوضان «لعبة الدجاجة» (تشيكن)، التي هي الوجه الآخر للعبة اكتشاف أيهما «الجبان» الذي سيسقط في المواجهة قبل الآخر. وليست هذه اللعبة جديدة على اللبنانيين وسياسييهم وإن استعاروها من سواهم. خبروها بين 1965 و1975، في الحقبة الذهبية التي قادت تدريجاً إلى الحرب اللبنانية، على أوتوستراد كازينو لبنان. كانت تقف سيارتان على طرفي الطريق، إحداهما في أولها والأخرى على نحو معاكس في آخرها، وجهاً لوجه تندفعان في سباق اصطدام بعضهما ببعض، وفي ظنّ كل من سائقي السيارتين أن الآخر سينحرف بسيارته عن الطريق حالما يصبح على مسافة قريبة من الاصطدام لتفاديه. فإذا فعل خسر السباق لأنه جبن. في بعض الأحيان يراهن كل منهما على شجاعته وخوف منافسه كي ينحرف قبله، فإذا بالسيارتين تصطدمان. هكذا هو واقع المواجهة الحالية بين الغالبية والمعارضة. يراهن كل منهما على تسوية الربع الساعة الأخير في سباقهما إلى المواجهة، وفي الوقت نفسه على توقع أن يرف جفن الآخر فيخاف، ويتراجع ويخسر المعركة السياسية.
ولعلّ أسوأ ما في رهان خطر كهذا يقود إلى الفوضى، أن الطرفين يلتقيان على المعطيات الآتية:
1 ـــ أن كلاً منهما بات ينظر إلى انتخابات رئاسة الجمهورية على أساس أنها المعركة الأخيرة التي يخوضها. هي المعركة التي تجعل قوى 14 آذار تربح، بعد إخراج سوريا من لبنان وقلب توازن القوى الداخلي والدعم الدولي وصولاً إلى القرار 1701 مروراً بالمحكمة الدولية وصمود الحكومة الحالية، كل مقدّرات السلطة في لبنان وتضعها في يدها، وهي أيضاً المعركة الأخيرة التي تجعل المعارضة تلتقط أنفاسها وتقلب توازن القوى القائم رأساً على عقب وتفرض على الفريق الآخر تسوية متوازنة ومتكافئة وتسقط استئثاره بالحكم. بذلك يقارب الطرفان المواجهة على اعتبار أن المعركة الأخيرة ليست سوى معركة وجود. وإذ تكون كذلك، تصبح وصفة حرب أهلية، أو في أحسن الأحوال وصفة للفوضى. على نحو مماثل خاض حزب الكتائب حرب 1975 كمعركة وجود المسيحيين والدولة اللبنانية وبقائهما في مواجهة المقاومة الفلسطينية التي انتهكت السيادة الوطنية، وخاض كمال جنبلاط معركة وجوده وتياره كمشروع لنظام سياسي جديد بات في الظرف الأكثر ملاءمة للانخراط في هذه المعركة بالتعويل على ياسر عرفات من أجل تحقيقه، كانت حرب 1975 السانحة الذهبية لسوريا أيضاً لتدخل معركة وجودها في لبنان سياسياً ثم عسكرياً بغية تكريسه في السنوات التالية. ووصفة الفوضى تتطلب أساساً انهياراً وشيكاً.
2 ــــــ يتقاسم طرفا النزاع الأسباب الكافية للسقوط في الانهيار، التي تكمن في أحد تطورين محتملين:
ــــــ إقدام رئيس الجمهورية، بتأييد من المعارضة، على تأليف حكومة ثانية تضع يدها على الوزارات والإدارات والمؤسسات الرسمية والمحاكم ومخافر قوى الأمن في مناطق سيطرتها وتلزمها تلقي التعليمات والأوامر منها، وتالياً تفكيك السلطة المركزية لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تظل تمثل حينذاك، في الظاهر، السلطة الشرعية التي تحظى بدعم دولي غير مشروط، ولكنها في الواقع تمسي سلطة عاجزة عن إدارة جزء مهم من الحكم والإدارة والمؤسسات والقوى الأمنية. الأمر الذي يشير ـــــ إذا صحّت هذه الخطة التي يتحدّث عنها أقطاب معارضون ـــــ إلى احتمال انتقال المواجهة من صراع على الشرعيات والمؤسسات إلى آخر في الشارع.
ــــ وإقدام قوى 14 آذار على انتخاب رئيس جديد للجمهورية بنصاب الأكثرية المطلقة التي تمسك بها، متجاهلةً رئيس المجلس نبيه بري وقوى المعارضة. وتتحوّل المشكلة عندئذ من طعن في انتخاب يعتبره الفريق الآخر غير دستوري ويحظى باعتراف ودعم دوليين، إلى خلاف على تقاسم ما بقي من السلطة الرسمية.
3 ــــــ مع أن الجامعة العربية لم تجمّد دورها نهائياً في لبنان، ولا أوصدت بالضرورة أبواب عودتها إلى بيروت مجدداً، إلا أن متصلين بالوفد العربي الزائر لمسوا، على هامش جولاته على المسؤولين، اعتقاد بعض أعضائه بدقة تشابك المشكلة الداخلية بالخلاف السعودي ـــــ السوري والأميركي ـــــ الإيراني، على نحو حمل هؤلاء المتصلين على استخلاص موقف عضو في الوفد العربي، مفاده أن تدخّلاً إيرانياً اعترض الوساطة العربية إبان حركتها في بيروت، وحال دون التوصل إلى تسوية محلية خارج بعض الشروط المرتبطة بالخلافات الإقليمية. ويقول هؤلاء المتصلون إن السباق الفعلي أضحى اليوم وفق المعادلة الآتية: تسوية محلية رخوة تتجنّب الفوضى وتقتصر على إدارة الأزمة لمرحلة ما بعد انتخاب رئيس للجمهورية، أم انفجار فوضى داخلية تستعجل الاتفاق الإقليمي على تطويق ما قد يحصل.