strong> ملاك مكي
  • تشكِّل اليوميات وسيلة علاج يفصح من خلالها الشخص عن مكنوناته النفسية

  • تترافق مرحلة المراهقة غالباً مع هواية تدوين اليوميات. هواية لا تستمرّ طويلاً، وتنتهي بمجرد أن يجد المراهق لنفسه حيّزاً اجتماعياً وعاطفياً يعبِّر فيه عن نفسه. هكذا تكون كتابة اليوميات علاجاً نفسياً يمكنه، إذا استمرّ، أن يؤسس أدباً أو أشكالاً أخرى من الإبداع الذي يلاقي رواجاً في عصر طغيان«الأنا»


    على وقع مطر خفيف، في منتصف ليلة رأس السنة الحالية، تخلّصت مريم حديب (21 عاماً) من مذكراتها. أحرقت جميع أوراقها التي دوّنت عليها خلال ثلاث سنوات تفاصيل أيام من عمرها، حلوها وغالباً مرّها.
    آنذاك، كانت تكتب لتفرّغ حزنها ووحدتها. تستيقظ في منتصف الليل من دون أن تشعل النور، تفتح دفترها وتبوح له بما لا تجرؤ على قوله. تواجه فيه خجلها وانطواءها على ذاتها. لم يكن أحد قادراً على فهمها. تخبئ نفسها في دفتر، تقفله وتنام. وفي الصباح، لا تعود إلى قراءة ما كتبته، وكأن الصباح لشخص آخر. آنذاك كان «الدفتر هو أنا، أؤكد من خلاله أن في حياتي الشخصية ما يمنع على أحد اقتحامه». لكن الوضع تغيّر مع دخولها إلى الجامعة. التقت مريم بأصدقاء جدد... وبفارس أحلامها، فشكّلوا لها إطاراً جديداً للتعبير عن نفسها ودعماً اجتماعياً استغنت به عن دفترها وتوقفت عن كتابة يومياتها. أما عن إحراقها الدفتر، فتقول مريم بأنه رغبة في الاحتفاظ لنفسها بمساحة خاصة عصيّة على الاكتشاف.
    مريم أحرقت دفترها، أما سميرة معلوف (15 عاماً) فهي تخبئه في مكان «سريّ للغاية». تدوّن عليه كل مساء بكثير من الصدق ما جرى معها خلال النهار: أحاديثها مع رفاقها، مشاكلها مع أهلها ومدرستها. وفي اليوم التالي تقرأ ما كتبت، وتُخضع نفسها لتقويم عند نهاية كلّ شهر. لا تقرأ لأحد كتاباتها لأنها الوحيدة القادرة على فهم ذاتها، وفي كل يوم تؤكد عبر الكتابة أهمية حياتها وحركتها. سميرة تكتب لأنها لا تريد للزمن أن يمرّ بها مرور الكرام، فتستوقفه عند الدفتر.
    أما كيف بدأت تدوين مذكراتها، فتذكر سميرة أن الراهبة وزّعت عليهم دفتراً ليكتبوا عليه يومياتهم في مخيم «حركة الشبيبة». انتهى المخيم، لكن سميرة بقيت متمسكة بالفكرة. اليوم، لا تستطيع النوم إن لم تكتب. تنهض من سريرها، تتحدث مع دفترها من دون أن تأبه لصناعة الجملة وانتقاء الكلمات. حين تكون حزينة تتوطّد علاقتها أكثر مع الدفتر، وحين تغضب يخطر في بالها أن تقرأ يومياتها بصوت عال ليعرف الجميع مدى معاناتها.

    علاج نفسي

    حتى الأطفال يكتبون يومياتهم. سيرينا نزهة (10 سنوات)، حصلت من عمتها على هدية: مفكرة على شكل فراشة. قالت لها عمتها أن تبدأ بتسجيل ما حدث معها في النهار فانهمكت سيرينا بالكتابة عن الأشياء الجميلة: «بس بدي أتذكر الاشيا الحلوة» تقول. تكتب عن عيد ميلادها مثلاً، ثم تقرأ لصديقاتها ما كتبته، بالنسبة إليها «المفكرات للبنات، وليست للصبيان». ملاحظة تستحق التوقف عندها ولو كانت من أوردتها طفلة. وتعطيها المحلّلة نفسية والأستاذة جامعية الدكتورة ليلى سحاب تفسيراً: «الشباب، رغم المشاكل العاطفية الكثيرة التي يواجهونها، يتمالكون انفعالاتهم أكثر من الفتياتوهي لا تحبّذ فكرة كتابة الأطفال ليومياتهم «لأن كتابة الصغار ليومياتهم يفقد هذا العمل وظيفته، هم ما زالوا بحاجة إلى أهلهم ولا يعرفون تحليل معطياتهم العاطفية».
    من هنا تنطلق سحاب لتشرح أسباب «لجوء» المراهقين إلى الكتابة، فتعيد ارتباط المفكرات اليومية بعمر المراهقة إلى «حاجة المراهق إلى أن يثبت استقلاليته خارج سلطة الأهل، من خلال مساحات حميمة يعبر فيها عن «الأنا» التي لا يعرفها جيداً ولا يملك الكلمات المناسبة الموضوعية لتبلور مشاعره الصعبة المرافقة للتغيرات الهورمونية النفسية التي يعيشها». وتوضح أن «عمر المراهقة يشهد بدايات التحليل العاطفي، وبدء الحكم على الذات (autojugement) والتفكير التجردي الذي يظهر جلياً في تلك المفكرات». لافتة إلى انقطاع كثيرين عن هذه العادة اليومية بعد تجاوز هذه المرحلة من العمر «وذلك لعدم حاجتهم إليها بعد الآن، فأسلوبهم في التعاطي مع نفسهم والتعبير عنها يتغيّر، أو ربما لأن أحداً ما قرأ تلك الأوراق».
    أما عن الأشخاص الذين يستمرّون في كتابة يومياتهم فتقول سحاب: «يمكن الكتابة أن تشكّل وسيلة علاج، يفصح من خلالها الشخص عن مكنوناته النفسية فيرتاح». كما أنها طريقة من طرق التحويل (sublimation) في العلاج النفسي حيث «يجعل الكاتب من انزعاجاته طريقة إبداعية، يتآمر من خلالها على النسيان. الأشياء المكتوبة تصمد بوجه الزمن، كما أن الشخص يتذوق متعة الكتابة ولذتها الأدبية».

    طغيان «الأنا»

    وإذا عدنا إلى الأدب، نلاحظ أن الكثير من الأدباء شاركونا مفكراتهم اليومية. قرأنا بكثير من الشغف تفاصيل أيامهم ومنعطفاتها. ولا يغفل بعض كاتبي اليوميات عن القيمة الأدبية لما يكتبونه، كما تعبّر حنان رميتي (21 عاماً). فهي، وإن كانت تحب التخلص من عبء الذكريات «لأن الحياة أسهل من دونها»، تكتب يومياتها «لإقامة علاقات غير مباشرة بين الأشياء، لا لتذكّر الحدث فقط». برأيها «يزيد تأريخ الأمور السيئة من سوئها، أما الأمور الجميلة فلا تحتاج إلى مفكرة لكي نتذكرها». ورغم ذلك، ترى حنان في الأشخاص الذين يسجلون يومياتهم «مراهقين لا يعرفون قيمة الوقت في زمن السرعة الذي لا يبالي بقوة المشاعر والتعبير عنها». لكنها تشير إلى «تصالح هؤلاء مع أيامهم، فهم لا يخافون من قراءتها بعد مرور الزمن عليها، وقد يكون لها قيمة أدبية».
    وبالفعل حظيت اليوميات بدراسات أدبية خاصة، وتميّزت بخصائص تتحدث عنها الأستاذة في الأدب الفرنسي الدكتورة كاتيا حداد. هي ترى في كاتب المفكرات «بطلاً يعيش أحداثها، يؤرخها يومياً، ثم يقرأها لنفسه. وتتّسم هذه الكتابات بالانفعالية، لأن المدة الزمنية التي تفصل بين الحدث وكتابته قصيرة، تتيح للكاتب قراءة نفسه، وبلورة أفكاره ومشاعره بشكل أوضح وأكثر موضوعية». أما عن شرط جعل هذه المفكرات مادة أدبية، فتشير حداد إلى ضرورة تجاوزها للخاص والانطلاق إلى العامة ثم العالمية حيث يصبح القارئ الآخر متماهياً مع كاتبهاويضيف الأستاذ في الأدب العربي الدكتور يحيى الشامي إلى هذا الشرط مقوّمات أخرى: «الأسلوب الراقي، الصياغة المتينة، حرارة النص، ومدى المشاركة بين الكاتب والمتلقي». ويلحظ ضرورة استعمال كلمة «مفكرات يومية» بدل «مذكرات»، فالمذكرات هي «عودة بالزمن إلى الوراء، يكتب الأديب في الحاضر ما عايشه في الماضي، أما المفكرات فهي كتابة يومية لأحداث ولقاءات غير بعيدة في التاريخ».
    وعن تاريخ هذه المفكرات، تربط حداد بين هذا النوع من الأدب والأحداث التاريخية «ففي القرن التاسع عشر، وبعد الثورة الفرنسية، أخذ مفهوم «الأنا» مكاناً خاصاً في المجتمعات، وبدأ التعبير عنه بأدب ذاتي بما فيه «Journal intime». هذا المفهوم شُوّه في الحروب العالمية التي ساد فيها قتل الإنسان وتعذيبه. ومنذ النصف الثاني للقرن العشرين حتى يومنا هذا، يشهد مفهوم «الأنا» تطوراً ملحوظاً. إذ تضيق اليوم مساحات الخاص والحميمي ويتحوّل كل شيء إلى العلن. لذلك تلاحظ حداد أن «القارئ يرغب اليوم أكثر بقراءة المفكرات والتلصُّص على حياة الآخر. هذه الرغبة يغذّيها تلفزيون الواقع والمجلات المصوّرة التي تنشر صور الأشخاص في مناسباتهم الخاصة». مشيرة إلى أن ذوبان «الأنا» في المجتمعات العربية بالمجموعة، العائلية، الدينية، الحزبية... قد يفسر صعوبة وجود مفكرات عربية منشورة.
    يكتبون يومياتهم في مفكرات حميمة، يحتفظون بلحظات مرت، يتذكرون لحظات أخرى كان من الجميل أن تطول أكثر، أن تبقى. لكن أليس السرّ في أن اللحظة هي دائماً خاطفة، كوميض، كبريق، كحياة.




    انتشار المدوّنات الإلكترونية

    أسهمت كتابة اليوميات ونشرها في كشف الكثير من الأسرار عبر التاريخ. منها ما كشفته مفكرات الرسّام الإيطالي ليوناردو دافنشي عن عبقريته في رسم تخطيط أول سيارة ذاتية الدفع في العالم. ودوّنت الكثير من أفكار دافنشي في مفكرات موجودة في المتاحف وهي تحظى بشعبية كبيرة.
    كما نشر عدد كبير من الأدباء مفكراتهم، رغم أنها لم تكتب لهذا الهدف، للتعبير عن مواقفهم من المجتمع الذي يعيشون فيه كـ Andre Gide التي حاولت عبر كتاباتها التفلت من القيود العائلية القاسية. وتشير إحدى إحصاءات دور النشر عن نشر نحو 800 كتاب مفكرات بين عامي 1997 و2002، يعود 84% منها للرجال.
    أما العامة، فهم ينشرون يومياتهم، لكن على الشبكة الإلكترونية، حيث تعدّ المدوّنات الإلكترونية (blog) ثاني ثورة في عالم الإنترنت بعد البريد الالكتروني. وهي برزت كظاهرة في عام 1997، وكانت عبارة عن نشر مفكرات شخصية، يستعملها أصحابها لتدوين الحوادث المهمة في حياتهم. لكن لم يمرّ وقت طويل حتى لاقت رواجاً في صفوف المراهقين والشباب، وحتى السياسيين الذين اعتمدوها في حملاتهم الانتخابية (فرنسا أخيراً).
    وخلال الحرب الأميركية على العراق، كانت المدوّنات الإلكترونية أحد أبرز المصادر المعتمدة لقراءة مسار الأحداث ومعرفة توجهات الرأي العالمي. وشكّل اختلاف الوقائع بين ما ترويه وسائل الإعلام الرسمية الموجهة وروايات المدوّنات الشخصية شيئاً من الخطورة على الموقف الرسمي من الإعلام في الحرب، ما دفع محطة cnn إلى الطلب من مراسلها كيفن ستايس إيقاف مدوّنته الشخصية.
    وذاع صيت سلام باكس كأشهر كاتب مفكرات على الشبكة الإلكترونية، لأنه استطاع أن ينقل بدقة وأمانة حقائق لم يستطع المراسلون الصحافيون الوصول إليها، وأن يرسم الصورة الحقيقية للعراقيين في ظلّ الحصار. وقام، من خلال تصوير يومياته، بإخراج فيلم «بغداد بلوجر» الذي اتصف بسخريته اللاذعة من الواقع العراقي.