البقاع ــ عفيف دياب

تجربة المراقبيـن فشلـت عام 1958 وبقاعيـون يحنّـون إلى «دوريات كمال جنبلاط»

«كان أهالي بلدة مجدل عنجر اللبنانية يسرحون بمواشيهم في وادي الحرير، بناء على رخص معطاة لهم من ولاة الشأن، فاعترضهم رجال الدرك الشامي وحجزوا بضعة عشر رأساً من مواشيهم. وكاد الأمر يتفاقم بين الفريقين لولا وصول رجال الدرك اللبناني (...). ويقول رجال مخفر درك وادي الحرير إن الحدود التي كان يسرح فيها الرعيان بمواشيهم مجهولة، والمفاوضات جارية بين الدولتين حول الحدود، ولا تزال المواشي محجوزة بانتظار انتهاء المفاوضات».
هذا ما أوردته جريدة «النهضة» في عددها الصادر بتاريخ 3 تشرين الثاني 1937، الصفحة الرابعة. ومذّاك، والمفاوضات لم تنتهِ بعد. فاللجان اللبنانية ــ السورية تواصل دورياً اجتماعاتها ولم تصل الى نتائج تحسم جدل ترسيم أو تحديد الحدود بين البلدين الشقيقين ــ اللدودين، واحتجاز المواشي على جانبيْ الحدود ما زال مستمراً من عرسال شمالاً الى دير العشاير وأخواتها جنوباً، وقوافل التهريب منذ أن أُعلن لبنان الكبير في «كرّ وفرّ»، ودوريات كمال جنبلاط، أو التي عرفت عام 1946 بـ«دوريات القمح»، لم تفلح في منع تهريب القمح السوري الى لبنان.
بعد سبعة عقود تقريباً على نشر «الخبر» أعلاه، لا تزال الحدود ملتبسة مع سوريا، وتتوقع جهات أمنية وسياسية بقاعية أن تزداد توتّراً، ولا سيما بعد صدور توصيات بعثة تقويم الحدود اللبنانية ــ السورية التابعة للأمم المتحدة بنشر «خبراء أمنيين دوليين» على الحدود لضمان منع تهريب الأسلحة، وما سبق التقرير من إقفال سوريا معبر القاع ــ الجوسية وحصر العبور الرسمي مع لبنان بمعبر المصنع ــ جديدة يابوس. ويعتقد الشيخ غسان شبلي العريان، من بلدة دير العشاير الحدودية، بأن نشر المراقبين «سيزيد الأمور تعقيداً، ولن يعطي النتيجة التي يأملها بعض أقطاب الموالاة، لأن التجارب مع سوريا منذ 1930 علّمتنا الكثير، فالحدود لن تتمكن أمم متحدة ولا مراقبات جوية أو أرضية من ضبطها ما لم نتفاهم مع سوريا على ذلك»!
ويتذكر العريان أيام انتشار مراقبين دوليين في قريته دير العشاير خلال ثورة 1958 لمنع تهريب الأسلحة من سوريا الى «الثوار»، و«تحديداً الى كمال جنبلاط». ويقول: «كان والدي النائب شبلي العريان صلة الوصل بين سوريا وكمال جنبلاط، وكان السلاح يتدفق الى دير العشاير، ثم ننقله على ظهور البغال الى المختارة بناء على طلب الشهيد جنبلاط الذي كان يتصل دوماً بوالدي لتوفير الأسلحة المطلوبة من سوريا».
تغيّر المشهد اليوم. ويقول العريان، الذي يحمل في ذاكرته مخزوناً كبيراً عن الحدود مع سوريا: «لم تعد دير العشاير اليوم بوابة سوريا لإرسال الأسلحة الى لبنان، زمن كمال جنبلاط تغيّر كثيراً، والثورات لم تعد لها قيمة، والتجربة مع المراقبين الدوليين سابقاً لم تعطِ النتائج المرجوّة ففشلت مهمتهم وغادروا البلدة وبقيت الحدود مفتوحة على شتى أنواع الاختلافات والتفاهمات».
وينظر بقاعيون بحذر الى توصيات بعثة تقويم الحدود، ويرون في نشر خبراء دوليين على الحدود مع سوريا «تصعيداً في وجه دمشق التي قد تقدم على إغلاق المعبر الوحيد الباقي اليوم مع لبنان»، ويعودون بالذاكرة الى «عصا» الرئيس السوري الراحل حسني الزعيم حين أمر بإغلاق الحدود مع لبنان سنة 1949. ويوضح العريان: «في أيار 1949 نفّذ الزعيم انقلاباً عسكرياً هو الأول في سوريا والعالم العربي، وفوجئ سكان دير العشاير التي لم يكن يربطها ببقية العالم إلا طريق عبر سوريا بدخول قوة عسكرية سورية الى البلدة لاعتقال أحد المواطنين بتهمة التجسس لمصلحة إسرائيل. إلا أن الجنود قتلوا المطلوب بدل اعتقاله، ما أثار ردود فعل فأقدمت قوة من الدرك والجيش اللبناني على اعتقال أفراد الدورية ضباطاً وجنوداً، فغضب حسني الزعيم وأمر بإغلاق الحدود، وتحولت القضية الى أزمة بين البلدين انتهت بتدخّل كمال جنبلاط الذي عمل مع الأمير عادل أرسلان على وضع حل قضى بعقد ضباط من الجيشين لقاءً مشتركاً على الحدود وفي بيروت ودمشق».
ويضيف: «كانت العلاقة بين جنبلاط والرئيس بشارة الخوري سيئة، فلم يتمكن الأول من تسويق مقترحه، فتدخّل قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب وتم التوافق على إقامة خيمة عند نقطة معينة بين المصنع وجديدة يابوس وعقد اللقاء العسكري والقضائي المشترك وفُتحت الحدود».
يتذكر العريان، بحنين، أيام كمال جنبلاط وكيف كان يتدخل لحل أي إشكال حدودي أو سياسي مع سوريا، وكيف كان يلحّ عليهم و«تحديداً على والدي شبلي العريان» لمعالجة تأخّر سوريا في إرسال الأسلحة أيام ثورة 1958: «كنا يومياً نتلقى كميات من الأسلحة من سوريا، وننقلها على ظهور البغال لمدة 12 يوماً حتى نصل الى المختارة، وكان جنبلاط يتصل يومياً بوالدي للتدخل لدى السوريين لإرسال الأسلحة، وفي أحد الأيام اتصل بوالدي وقال له: إذا لم ترسل سوريا أسلحة فإنني سآتي الى دير العشاير، وعلى الفور ذهب والدي الى الشام وأحضر 4 شاحنات محمّلة بالأسلحة، أما اليوم فإن دير العشاير لم تعد بوابة تهريب الأسلحة كما يقول البعض لغايات سياسية، فزمن كمال جنبلاط تغيّر كثيراً، وغاب شبلي العريان الذي هدّد سوريا بألف خَيّال يوم أغلق حسني الزعيم الحدود مع لبنان».