أنسي الحاج
نتباهى نحن اللبنانيين بأن القَتَلة، مهما قتلوا منّا، نظلّ صامدين. أي أنّنا لم نُقْتَل جميعاً بعد. طبعاً جزء من هذا يعود إلى غيابنا عن وعي الموت، لكنَّ القَتَلة يوظّفون هذه الحيويّة إذ يعتمدون عليها ليواصلوا قَتْلَنا بدون شفقة.
إنه قَتْل الابتزاز الحسابي لا التشنيع المَرَضيّ. غير مفيد، هنا، الإبادة التامّة، و«الجريمة العاطفيّة» ممنوعة. هناك خريطة للقتل أو للترويع تعمل عليها أدمغة شبيهة بأدمغة لاعبي الشطرنج.
إسقاط أوراق معيّنة من الشجرة «كلّما دعت الحاجة» والحرص على دوام اخضرار الشجرة من أجل دوام توظيف أوراقها.
قَتَلَة عن بُعدْ، بواسطة واسطة الواسطة، تحت غطاء غطاء الغطاء، بلا نهاية.
صناعة بارعة تتّكل كثيراً على إيماننا بالجانب الأسطوري من صمودنا لإقناعنا بالبقاء في المَسْلَخ وعدم الهجرة، وإشعارنا كلّما قفزنا فوق موجة جديدة من نظام القتل الابتزازي أنّنا هذه المرّة أيضاً «غَلَبْنا الموت»، في حين أنّنا تُركنا أحياء من أجل المفاوضة.

لا تريد الفكرة السابقة إحباط القتيل بل تفريح القاتل... فلا بدّ له أن يستمتع حين يعرف أنّه يَفتك بشعبٍ يدرك شيئاً من لعبته. قاتل بهذه الألمعيّة لا يحبّ أن تكون ضحاياه غبيّة من كلّ النواحي.

بماذا البريء قويّ؟ بعدم ارتكابه القتل. إذاً، هو قويّ بضعفه. أي أنّه ضعيف... الضعيف يُشفق عليه الضعيف، لا القويّ. ماذا يفعل الضعفاء بين حوافر الخيل؟ لماذا هُم هنا؟ لماذا لا يزالون هنا؟
مع استثناء: الذين تطاحنوا منذ 1975 في حروبهم الأهلية وتناهشوا جثثاً وجماجم وتناوبوا على النهب، هؤلاء ليسوا أفضل من الغرباء الذين يقتلوننا ابتزازاً أو غير ابتزاز.
غير معروف كم يشكّل هؤلاء من أصل الشعب اللبناني. في كلّ الأحوال يشكّلون، إذا جمعناهم من مختلف الطوائف، طائفة كبيرة.
الأبرياء والأوادم أكثر عدداً منهم، ولكنْ أين هو صوت الأبرياء والأوادم؟ هل يستطيع أحد من الزعماء السياسيين، صفّ أول وصفّ ثانٍ، أن يقف ويقول: «أنا هو»، ويجاوبه الأبرياء والأوادم: «حقّاً هو أنت»؟

لا يمضي يوم إلّا تُكرّر جهة من الجهات أنها لن «تتخلّى عن» لبنان، أو عن «حزب الله» أو عن «الحكومة الشرعية». واشنطن، باريس، دمشق، القاهرة، الرياض، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي وعاصمته الفاترة بروكسيل.
ما هذا البلد المعلّق بشفاه الدول؟ وإذا مضى أسبوع ولم يكرّر لنا «الضامن» حمايته، نشعر بأننا سنقع.
واحد من أمرين: إمّا أن نُسلّم أمرنا فعلاً إلى الحماية الدوليّة، أو أن نَقَع ونرتاح من رهاب الوقوع!

... ويكتشف الوسطاء أن «الحلّ» في دمشق وطهران. وهل كان الحلّ قبل ذلك في الدور والقصور اللبنانية؟ متروك للبنانيين ما يُترك للأدوات. ومساحة للعزف المضحك على وتر «الحوار» و«الوفاق الداخلي». متى كان في لبنان حوار إلّا بين ممثّلين للمتفاوضين بدم لبنان؟ ومتى كان فيه «وفاق داخلي»؟ كلّ الأطراف في لبنان أجزاء من أجساد خارج لبنان.
إذا كان في وسع اللبنانيين انتزاع حقوقهم رغم إرادة سوريا وإيران، فشيء عظيم ولا حاجة إلى أميركا وأوروبا وعرب «الاعتدال». إذا لم يكن في الوسع، فما هي المساعدة الحقيقيّة التي قدّمتها أميركا وأوروبا وعرب «الاعتدال» للبنان كي يتغلّب على عراقيل سوريا وإيران؟
استطراداً: إذا كان المجتمع الدولي بأسره غير قادر على نصرة لبنان، فإمّا أن لبنان ميؤوس منه، وإمّا أن المجتمع الدولي ميؤوس منه.
حتى الآن يمكن القول إن سوريا وإيران هزمتا المجتمع الدولي. هزمتا الأمم المتحدة ومجلس الأمن والجامعة العربية (على افتراض للجامعة العربية موقف يمكن البناء له أو عليه). ومع هذا، لا يزال المجتمع الدولي يواجه (والأصحّ: يُلاعب) سوريا وإيران على حساب اللبنانيّين (والفلسطينيّين والعراقيّين).
ويستمرّ «الدعم». وتكرار «الدعم». لم يشهد انهيارُ بلدٍ وبَشَرٍ مثل هذا «الدعم» في التاريخ.

... ومع هذا، السماء ضاحكة بلا حياء، والأرصفة لا يهجرها الجمال النسائي. الساحات مزيّنة بطيش الأولاد، والحياة تُمعن في فقدان وعي الموت.
ليس هذا «وطنيّة» ولا «لبنانويّة»، بل مجرّد تشخيص، وبلا فخر. الحياة مؤمنة بنجمها، وكأنها، رغم سطحيّتنا وفظاظة أفراحنا مرّات، بل وقاحة بَسْطنا، كأنّها هي المحتوى الأصلي الحقيقي لهذا الوعاء الجغرافي الصغير، تخترع نفسها بنفسها، وتستمدّ من أمراضها مناعات فذّة تُسابق جبروت الجبابرة ودَهاء عباقرة القتل.

لم نعد ولا في زمن.
حين كان اللبنانيّون يُغنّون، كانوا شعباً واحداً. ومنذ 1975 سكت الغناء في لبنان.

عــــــابرات

  • إن الكلام مُسْتَملى عن الوالدين، صاعداً قرناً فقرناً إلى ما لا نهاية له، فليس للخَلْق أوّل.

  • ابن الراوندي

  • المجنون ليس مَن فقد عقله، بل مَن فقد كل شيء إلّا عقله.

  • جيلبرت كيث شترتون

  • الثمرة عمياء، الشجرة هي التي تَرى.

  • رونيه شار

  • صاحب العبقرية هو ذلك الذي يعطيني شيئاً منها.

  • بول فاليري
  • افتح بابكَ للقارئ. عليه هو أن يجد المخابئ.

  • ليون بول فارغ

  • أعتقد أنّ النساء هُنّ المؤتَمنات على الحريّة.

  • فرانسيس بيكابيا

  • لا نحتاج إلى الحريّة بقَدْر ما نحتاج إلى أن لا نكون مقيّدين إلّا بما نُحبّ.

  • بيار روفردي

  • في الأدب، كلّ ما ليس بلا رحمة، مملّ.

  • سيوران

  • مع حبّ الأمّ، تَعْقد لنا الحياة عند فَجْرها وعداً لا تفي به أبداً.

  • رومان غاري
  • هناك نوعية من الدماثة تكون دائماً علامة على الخيانة.

  • فرنسوا مورياك

  • إن مَن حَرَمْتَـه كلّ شيء لم يعــــد تحت سلـطـــتـــــك. لقد أصبـــح من جديد إنسانـــاً حـــرّاً.

  • ألكسندر سولجنتسين

  • يوم لا يعود أحد من الحرب، معنى ذلك، أنها كانت حرباً ناجحة.

  • بوريس فيان

  • القتل ممكن. لكنّه ممكن حين لا ننظر إلى الآخر وجهاً لوجه.

  • أمانويل ليفيناس

  • سؤال: هل يَقْدر أحدٌ أن يُحبّ بلداً كما يُحبّ امرأة؟

  • ألبير كامو