جوان فرشخ بجالي
لكي يثبت الإسرائيليون حقّهم التاريخي بفلسطين ويبرّروا استيلاءهم عليها، لا يترددون في تزوير كتابات عبرية على قطع قديمة تدّعي وجود هيكل سليمان في القدس

كلّ سنة تقريباً، تظهر في إسرائيل قطعة أثرية عليها كتابة باللغة العبرية القديمة تؤكد أن هيكل سليمان مبني داخل مدينة القدس. في عام 1988 عُثر، فجأة، في مستودعات متحف تل أبيب على إناء منحوت بالعاج على شكل رمانة كتب عليه: «تقدمة لكهنة المعبد» فاعتُبِرَت القطعة الأثرية الوحيدة من هيكل سليمان التي تثبت بناءه في القدس. وعُرضت تلك القطعة في وسط المتحف حتى عام 2004، حين طلبت لجنة علمية تابعة للمحاكم فحصها مخبرياً، وتبيّن أن الكتابة أضيفت إليها أخيراً وهي مزوّرة.
ولكن نادراً ما يترافــــــق اكتشاف تزوير القطـــــــــع الأثرية مع تغطية إعلامية كبيرة مثـــــــــل التي تحظى بها عند اكـــــــــــتشافهـــــــــا. فحينهـــــــا يتصدّر خبر «الاكتشاف العلمي» وسائل الإعلام تأكيـــــــــــداً أمــــــــــام الرأي العام العالمي لحقّ إسرائيل التاريخي في الوجود في فلسطين. وما إن تـــــــــنتهي الحملة الإعلامية حتى تبدأ التحضيرات لتنظيم جولات لهذه القطع «الفريدة» على أكبر متاحف العالم، لتصبح عندها مكتشفات أصلية وتبقى على حالها إلى أن تشكك فيها إحدى الجهات المختصـــــــــة، وتحيل الملف على القضاء الذي يطلـــــــــب إجراء دراسات علمية ومخبرية مفصّلة، وبعدئذ تعلن النتائج: «الكتابات العبرية مزوّرة». ولكن بالطبع تأتي تلك النتائج متأخرة، أي بعد أن يترسّخ في اللاوعي الجماعي وجود دلائل تاريخية على ما تدّعيه إسرائيل.
هذا هو «السيناريو» المتداوَل منذ خمس سنوات تقريباً، وقد شمل خمس قطع رئيسية عُرضت كلها لسنين في متحف تل أبيب. من تلك القطع «ناووس يعقوب أخي المسيح» وهو ناووس روماني أصلي حفر عليه نص كتب بالعبرية يؤكد هوية المدفون في داخله. وقد اكتُشف التزوير خلال جولة للناووس في متاحف كندا حينما تشقّق طرفه وبان الحفر الحديث. أما القطعة الثانية فهي رُقُم طينية ملكية كتب عليها بالعبرية عن إصلاحات في مبنى الهيكل، وهناك أيضاً فخّاريات كتب عليها أن هبات قُدّمت للهيكل وأن أرملة طلبت حصةً من مال زوجها.
واللافت أن هذه القطع تتمتّع بتقنية عالية جداً في التزوير من جهة، وفي طريقة صياغة النصوص من جهة أخرى. ولو أن دراسة هذه القطع اقتصرت فقط على الكتابات، لما كان ممكناً كشف التزوير، إذ يبدو أن خبراء اللغات القديمة ساهموا في صياغة هذه النصوص على رغم عدم وجود دليل حسّي على ذلك.
الجدير بالذكر أنه على رغم اعتراف متحف تل أبيب بحقيقة تزوير هذه القطع، إلا أن اليمين المتطرف يرفض هذه التصريحات، ويعمد إلى صنع نسخ عن هذه القطع وبيعها للسياح كذكرى تثبت وجود إسرائيل التاريخي في القدس!
هذا الجدل القائم في الأوساط العلمية عن كيفية التعامل مع التزوير هو ما حثّ «مؤسسة علم الآثار التوراتية» في إسرائيل على تنظيم ورشة عمل علمية دعت إليها عدداً كبيراً من علماء الآثار المختصين بالكتاب المقدس وعلماء النقوش (من إسرائيليين وأوروبيين وأميركيين) في محاولة منها لوضع طريقة عمل مشتــــــــركة لمــــــــواجهة هذا التزوير للتاريخ. ونشرت هذه المؤسســــــة ملخّصاً لأعمال المؤتمر على موقعها على الإنترنت، كان فيه الازدراء بتعاطي الإعلام مع الموضوع والتشكيك في أصالة هذه القطــــــــع الجامع المشترك بين كلّ المشاركين فــــــــــي ورشة العمل. وتداول العلمـــــــــاء في «كيفيــــــــــة التعامل» مع القطــــــــع التي تصلهم من محترِفي جمع القطع الأثرية الذين ينتشرون بعدد كبير جداً في إسرائيل. تجدر الإشارة إلى أن قسم الآثار في جامعة تل أبيب يـــــــــرفض بشكل قاطع الاطلاع أو حتى دراسة أي تحفة مشتراة من السوق أو في حوزة أحد جامعي القطع الأثرية، لسبب وجيه هو أن إسرائيل تعتبر معبراً، وأحد أهم معاقل تهريب الآثار وتزويرها في العالم، وخصوصاً أنّ الاتّجار بالقطع «غير العبرية» مشروع بحسب قانون الآثار لديهم.
وفي حديث يشبه الدفاع عن التزوير، يقول أهم عالم آثار توراتية في إسرائيل غابريال باركي «بأنه يجب أن يتعامل الرأي العلمي والأكاديمي مع هذه الكتابات بالطريقة نفسها التي يتّبعها مع أي قطعة أثرية أصلية عُثر عليها خلال الحفريات. فأهمية هذه النصوص قد يتخطى كل المكتشفات ولا يجب التعامل معها من مبدأ أنها «أجمل من أن تصدق». بهذا يكون هناك رأي يدافع عنها وآخر ينقضها، والربح هو لمن يثبت رأيه بجدارة أكثر». ويرى باركي أن من غير الضروري «تعريض القطع لفحص مخبري أو حتى بتّ أصالتها أمام المحاكم ولجان التحقيق، بل يجب أن يُترك ذلك للرأي العام ولمن له القدرة على الإقناع».