صور ــ آمال خليل
الجنوبيون في قراهم، لكن هناك جنوبيين، في جنوبهم، يعيشون في الشتات. فبعد أن وُعدوا إثر انتهاء العدوان، بأنهم سيشهدون خلال سنة واحدة إعادة الإعمار والعودة إلى الديار، بموجب الوعد الرسمي، عضّ الناس على الجرح، وبمفاعيل الوعد الصادق ارتضى بعضهم بالإيواء المؤقت هنا وهناك. بيد أن سبعة أشهر من السنة الموعودة انقضت، وأموال التعويضات لم تصرف لهم بعد.
وفيما أنفقت الناس قيمة المساعدة التي استحقتها من حزب الله في استئجار الشقق التي طلب معظم أصحابها دفع أجرة السنة مسبقاً وفي أمور المعيشة بسبب البطالة التي طالت معظمهم.
وأمام المصير المبهم الذي يؤجّل زمن الاستقرار وعودة الجنوبيين، الذين لا يعوّلون كثيراً على الجانب الرسمي، تشير مصادر مقربة من الحزب، إلى أنه في صدد وضع خطة دعم ثانية للجنوبيين تأتي استكمالاً لبرنامج الإيواء الذي شمل دفع مبلغ 10 آلاف دولار لكل منزل مدمّر، لقاء استئجار شقة سكنية لعام واحد وفرشها بالأثاث اللازم.
ومن المقرر أن تدخل الخطة الجديدة حيّز التنفيذ في شهر أيلول المقبل، أي لدى انتهاء مدة برنامج الإيواء.
وفي الانتظار، يضطر الجنوبيون إلى تنظيم حاضرهم حيث هم، في شقق مستأجرة في صور أو القرى المحيطة. تنظيم يشمل استحداث سبل عيش جديدة وعلاقات اجتماعية واهتمامات طارئة.
لا يعرف عباس بزيع مهنة غير الزراعة، ولا سيّما أن عمره 75 عاماً، لا يسمح له باكتساب مهارة جديدة. فلم يكن أمامه إلا أن يشتري عربة ليبيع الخضار في المجمع السكني الذي يسكنه في صور منذ سبعة أشهر، وأن يستأجر مشتلاً صغيراً في الجوار بعد نزوحه المؤقت من بلدته زبقين. المشتل الصغير لا يعوّضه عن أراضيه التي احترق رزقه فيها خلال العدوان وامتلأت بالقنابل العنقودية. يقول: «حتى إن التراب هنا لا يشبه التراب الأحمر في زبقين، والمحاصيل التي أزرعها في المشتل لأبيعها على العربة، ما فيها بركة، على رغم أنني أزرعها بيدي».
غصة العجـــــــــوز كبيرة «تنقلب إلى شعور بالـــــــــذل أحياناً» كما يقول. لا يهمّه أنه يبيع «على عربة خضار صغيرة بعد أن كنت من كبار المزارعين»، بل أكثر ما يعزّ عليه «شعور الغربة»، فكيف يمكنه أن يسكن «بعيداً عن الضيعة في مدينة، الكل فيها مشغول بعمله وهمومه»، وهو الذي لم يترك زبقين طوال زمن الاعتداءات الإسرائيلية.
المسن محجوز مع زوجته في شقة صغيرة تأويه مع عائلة ابنه المؤلفة من زوجته وأولاده الخمسة. والأسوأ في رأيه أنه لا يمكنه زيارة ضيعته التي لا تبعد أكثر من 40 كيلومتراً عن سكنه الحالي، سوى مرة واحدة في الشهر «لأنو المشوار بيكلّف».
حاول أن يتعرف بجيرانه الجدد، فلم يعرف، فاكتفى بالتواصل مع أبناء بلدته الذين يسكن عدد كبير منهم بجواره، في مجمعات سكنية. حتى مروان (20 عاماً) وعلي (22 عاماً) الساكنان في المجمع عينه، لم يختلطا أيضاً بجو المدينة، ليس لأنهما «من أبناء الريف الغرباء»، بل لأن أوضاعهما ليست ملائمة للتمتّع بالجو الجديد في صور، «لأنو ما في مصاري والنفسية بالأرض».
أما زينب عزّام (65 عاماً) فإنها تحتاج إلى كثير من الوقت لتعتاد السكن في غير بيتها. دعتها ابنتها للنزوح معها إلى قانا فلم تقبل، فهي لم تترك صدّيقين منذ 46 عاماً إثر وفاة زوجها.
حتى في عدوان 1996 عندما لجأ أهلها الشهداء إلى مركز قوات الطوارئ في قانا، لم تغادر معهم، على رغم أنها كانت تزورهم يومياً حاملة إليهم الحليب واللبن ومواد غذائية من دكانها، الذي دمّر مع البيت والبقرات في العدوان الأخير.
أما أرزة بلحص التي تسكن في غرفتـــــــين مع زوجهــــــــــــا وابنتها الصغيرة، فإنها لن تغادر المدرسة عندما تقبض مبلغ التعويض كالباقين، لأن بيتها المدمّر لم يكن لها ولن يكون في استطاعتها تبديل مكان الإقامة. لذا تكيّف نفسها وابنتها على أن المدرسة كلها «ملكهما بل قصرهما الذي سيؤول إليهما بعد رحيل الضيوف».