رنا حايك
تنطلق اليوم من جبل لبنان الشمالي الرحلة الثانية من رحلات الاختبار التي تقوم بها شركة «إيكوديت» لمشروع «درب الجبل اللبناني». هذا المشروع الذي يفعّل السياحة البديلة يهدف إلى إعادة إحياء درب الجبل وحمايتها من الجرف، وإلى إيجاد فرص عمل لأبناء القرى النائية

تردّد الخبر في قرية القمامين، شمال لبنان، وذاع كالنار في الهشيم: «وصلوووواا، طلّواا». مجموعة من الشباب يحملون كاميرات وشطائر لبنة وزعتر وقوارير مياه، يجوبون الوديان المحيطة بالقرية وجبالها. اندفع عشرات الأطفال لاستقبالهم، مشوا نحو 2 كلم للترحيب بهم في قريتهم الساكنة.
هي ليست القرية الأولى التي يزورها المشاركون في مشروع «درب الجبل اللبناني» ويلقون فيها هذا الترحاب، وخصوصاً أن الأهالي لم يعتادوا رحلات يكون هدفها الأول تنمية قراهم في إطار تفعيل السياحة الرديفة.
وكان الاهتمام بهذا النوع من السياحة في لبنان قد بدأ في أواخر التسعينات، وتأسست عدة شركات بهدف تنظيم رحلات سير بيئية في مختلف المناطق اللبنانية. وعلى رغم اقتصار هذه الرّحلات على توفير عنصر الإمتاع وممارسة الرياضة، إلا أن رواجها لفت نظر العاملين في شركة «إيكوديت» إلى مشروع طموح يجمع بين المتعة والتنمية وإعادة إحياء التراث، فأطلقت «مشروع درب الجبل اللبناني».

سياحة بيئية رديفة

يحاول القيّمون على هذا المشروع استعادة الدروب التي شقّتها أقدام سكان القرى والرعاة فيها وربط بعضها بالبعض الآخر من أعالي القبيّات في عكار إلى مدينة مرجعيون المحاذية لجبل الشيخ. وهي فكرة تؤدي أيضاً إلى إعادة إحياء درب الجبل وإنقاذها من الجرف والردم إضافة إلى تنشيط نوع جديد من السياحة البيئية، ما من شأنه تنشيط الدورة الاقتصادية في القرى الجبلية النائيةواستعان العاملون خلال المرحلة الأولى من تنفيذ المشروع، الذي بدأ عام 2005، بصور الأقمار الصناعية، ودراية سكان القرى وأبنائها ممن يعملون في حقل السياحة بمناطقهم، وخبرة المسّاحين المحترفين لإنجاز خرائط توضح خطوط سير الدرب، ثم لاختبارها من قبل المنسّقين الميدانيين المنتشرين في مختلف المناطق.
أما المرحلة الثانية، التي بدئ تنفيذها في العشرين من نيسان وتستمر حتى الخامس من حزيران المقبل، فحشد خلالها العاملون في المشروع، ويصل عددهم إلى نحو 15 شخصاً، طاقاتهم لتنفيذ الرحلة الطويلة سيراً على الأقدام من الشمال إلى الجنوب (أربع رحلات). وتهدف هذه الرحلات إلى اختبار الطريق والتأكد من صحة المعلومات الواردة على الموقع الإلكتروني الخاص بالمشروع، وفي مسوّدة الدليل الذي سينشر خلال الأشهر الستة الباقية من مدة المشروع، وتحديد المواقع التي تحتاج إلى إشارات وعلامات تدل إلى الاتجاهات.

التمكين الاقتصادي

توضح منسقة المشروع ميشال بشير المعايير التي استند إليها القيّمون لاختيار الدرب، «بالإضافة إلى معايير السهولة والسلامة وتفادي الطرق المسفلتة، حرصنا على معايير تخدم أحد أهم الأهداف في المشروع وهو تحريك الدورة الاقتصادية في القرى التي نمرّ بها». لذلك اختيرت القرى التي لا يقلّ ارتفاعها عن 1000 متر، لتفادي التمدّن، لكن لا تزيد على 1800 «لأن العمران سيختفي حينها ويتحول المشروع التنموي بالأساس إلى تجربة وحدوية وذاتية لا تعود بالفائدة على سكان الجبل».
وترى بشير أن المشروع، بتفعيله لهذه الدروب، «يوجد فرص العمل للعديد من المرشدين السياحيين في مناطقهم بعد تأهيلهم من خلال ورشات عمل وتدريبهم على كيفية المحافظة على الدروب من الجرف وتنظيفها من الحشائش، والحفاظ على التنوّع البيئي، وإدراج أسمائهم في الدليل الذي سيصدر عنه قريباً».
ومن ناحية أخرى، يشجع المشروع السكانَ الذين يديرون مراكز إقامة بديلة من بيوت ضيافة أو فنادق صغيرة، على تطوير مشاريعهم أو المبادرة لإنشاء المزيد منها مثل مراكز التخييم، ويتيح بيع المنتجات المحلية من أشغال يدوية ومنتجات غذائية تشتهر بها المنطقةوتأكيداً لهذا الهدف، خصّص المشروع جزءاً من الموازنة لمساعدة بعض العائلات ممن يديرون بيوت الضيافة على تأهيل منازلهم وتجهيزها لاستقبال النزلاء. لكن هذه المساعدة تواجه صعوبات يلفت إليها مدير المشروع كريم الجسر حين يشير إلى مشكلة الضريبة على القيمة المضافة التي تتحملها المؤسسة في عمليات الترميم وفي عدة مجالات، «لأن الإعفاء منها لا يطال الجمعيات والمشاريع التنموية والجهة المموّلة لا تغطيها، ما يشكل عبئاً على المشروع».
هذه العثرات التي تفرضها قرارات وزارة المال يقابلها تعاون وتنسيق مع وزارة البيئة وتسهيلات في مجال التسويق تقدمها وزارة السياحة حيث تشرك المشروع في أجنحتها خلال المعارض من دون مقابل مادي.

الخصوصية الثقافية للمناطق

بالإضافة إلى فوائد المشروع الاقتصادية، تكمن أهمية المشروع الحقيقية في مجابهته للسياحة الاستهلاكية التقليدية. فقد دعا العاملون في المشروع مجموعة من الصحافيين للمشاركة في بعض رحلاتهم، منها اثنتان شاركت فيهما «الأخبار»، أولاهما خلال شهر تشرين الثاني في بسكنتا، وثانيتهما قبل أسبوع في إهدن. خلال هاتين الرحلتين، أمكن لمس الفوائد المباشرة للمشروع وخصوصية الدرب الذي يسلكه بحسب المنطقة التي يمرّ بها.
بسكنتا، التي اشتق اسمها من عبارة «بيت السكن»، فرضت درباً أدبياً، إذ يوفّر المسار الطويل بين شجيرات العلّيق على كتف وادي الدلب الذي يربط صومعة ناسك الشخروب ميخائيل نعيمة و«العندليب» عبد الله غانم، الذي كتب شعراً غنّته فيروز ونور الهدى ووديع الصافي وكارم محمود والكاتب سليمان كتانة الذي كرّمته الحكومة الإيرانية بإطلاق جائزة أدبية باسمه بعد حصوله عام 1966 على جائزة النجف عن كتابه: «الإمام علي نبراس ومتراس».
أما رحلة إهدن وبشري، فقد أتاحت للمشاركين، بعد زيارة محمية إهدن ومتحف جبران، السير على علو 400 متر، في وادي قنّوبين، يلفّهم سحر الصمت المهيب في واد عُرف بقدسيته. هنا يعيش ذلك الرجل الكولومبي الذي هاجر منذ نحو عشرين سنة إلى لبنان حيث اعتنق المذهب الماروني ليُتاح له تنفيذ نذر الحبس. في دير مار أنطونيوس قزحيا قدّم الراهب نبيذاً حلواً وجولةً في أروقة الدير: كهف المجانين حيث كان يُودع مرضى الأعصاب ليشفيهم القديسون، وأقدم مطبعة في الشرق بالأحرف السريانية وتعود لعام 1585.
يحاول المشروع الابتعاد عن السياحة الاستهلاكية التي تحتكر قطاع الخدمات في لبنان. تتعاون معه في ذلك نحو 12 شركة سياحية تهتم بالسياحة البيئية وأفراد لديهم الكثير ليقدمونه إلى مناطقهم، بينما تعزف عن التجاوب معه شركات السياحة التقليدية التي يقتصر لبنان بالنسبة إليها على شواطئ اللهو وحانات الرقص ومطاعم الخمس نجوم.




3,3 ملايين دولار «من الشعب الأميركي»

تنفّذ شركة الاستشارات البيئية «إيكوديت ــ لبنان» مشروع «درب الجبل اللبناني» بإيعاز من الشركة الأخت «إيكوديت ــ واشنطن» التي وفّرت تمويلاً له من «وكالة التنمية الأميركية» ضمن إطار منحة لمشاريع التمكين الاقتصادي، ذلك أن الوكالة لا تمنح التمويلات إلا لشركات مسجلة في أميركا.
وتقدّم الشركتان المستقلتان عن بعضهما قانونياً ومالياً، خدمات الاستشارات البيئية ودراسات الجدوى للمشاريع الخاصة من مصانع ومستشفيات، أو العامة التي تتولاها الحكومات في لبنان وفي مختلف البلدان العربية. فقد أنجزت إيكوديت عام 2001 دراسة للوضع البيئي في لبنان لحساب وزارة السياحة، ونفّذت دراسة جدوى لمشروع يُعنى بإدارة النفايات الصلبة في جبيل عام 2004، بينما عملت بعد العدوان الإسرائيلي بالتعاون مع وزارة البيئة والبنك الدولي على تحديد كلفة التلوّث على القطاع السياحي والثروة البحرية. أما الآن فهي تعدّ تقويماً للتأثير البيئي الاستراتيجي لمشروع درب الجبل اللبناني ستسلمه قريباً لوزارة البيئة.
يدير فيصل أبو عز الدين مشروع درب الجبل في لبنان بتمويل يصل إلى 3.3 ملايين دولار تُنفق على سنتين، وهي مدة المشروع التي تنتهي في كانون الأول 2007 لتتولى جمعية درب الجبل المستقلة، والتي تأسست منذ شهرين، إدارة الدرب بعد أن تجد تمويلاً جديداً لمتابعة المشروع.
أما عن شروط التمويل والتنازلات التي قدّمت ثمناً للحصول عليه، فتوضح ميشال بشير، منسّقة المشروع، بأن «شروط الوكالة اقتصرت على الإعلان والترويج للمؤسسة التي تقدم الأموال كـ«هدية من الشعب الأميركي»، أملاً ربما في تحسين صورتها في المنطقة العربية، وهو أهون الشرور مقارنة مع الفوائد التي يحققها المشروع للجبل اللبناني.




درب الجنوب «المفخّخ» أبعدت الألغام والقنابل العنقودية الإسرائيلية الدرب عن مساره. وحوّلته الضرورات الأمنية إلى درب موازٍ يمر عبر القرى التالية: جزين، عيتنيت، مجدل بلهيص، كوكبا بو عرب، العقبة، راشيا، عين عطا، الخلوات، عين تنتا، عين قنيا، حاصبيا، أبو قمحة، إبل السقي، مرجعيون.
وهو طريق أطول بكثير من الطريق الأساسي الذي كان ينطلق من جزين ليمرّ عبر كفرحونة وعرمتا ثم الريحان فالمحمودية وصولاً إلى مرجعيون.
وقد فرضت الدواعي الأمنية تحييد المناطق الجنوبية الأكثر تضرّراً من ويلات الحروب عن مشروع تمكين اقتصادي هي في أمس الحاجة إليه، وكأنها تبعات اللعنة التي تطال هذه القرى كل يوم بأسلوب مختلف عما سبقه.
أما الآثار التي سيمرّ بها السائح خلال الرحلة، فهي تتنوّع بين كنائس مارونية وأورثودوكسية ويهودية، وشلالات، ومقامات لشيوخ من الموحدين الدروز، وأسواق قديمة وآثارات رومانية وقصور تاريخية من دون أن ننسى قلعة الاستقلال في راشيا.