طرابلس ــ فريد بو فرنسيس
لم يكن سوق النحاسين في طرابلس يحتاج يوماً إلى من يدل عليه، أو أن يحدد موقعه لزوار المدينة، فقرقعة النحاس تصل إلى كل الأسواق المحيطة به، معلنة عن ورشة عمل لا تهدأ لتأمين حاجات الأهالي من مستلزمات الحياة اليومية آنذاك، ولا سيما على صعيد الأواني المنزلية من طناجر وملاعق وسكاكين إلى «الدست» و«اللكن» و«مناقل الفحم»، إلى ما عداها من مستلزمات الحياة اليومية.
هذا السوق أُنشئ في العهد المملوكي، أي قبل أكثر من 700 عام، في إطار مشروع تنظيم أسواق المدينة المتخصصة الذي نفذه المماليك مع بداية حكمهم. وكان يضم أكثر من 45 مصنعاً ومتجراً لبيع النحاسيات، ثم ما لبث أن تحول إلى شارع واسع يصل محلة القلعة وباب الحديد بالسرايا العتيقة وبمنطقة التل. إلا أن التشوهات التي طالته أثناء سنوات الحرب أفقدته طابعه التراثي والأثري، مترافقة مع التراجع الذي طال المهنة.
يشير توفيق طرطوسي، وهو أحد الحرفيين الباقين في السوق، إلى أن سوق النحاسين كان ضيقاً جداً مثل أسواق البازركان والعطارين والكندرجية، لكن بعد طوفان نهر أبو علي هُدم القسم الشمالي منه، ابتداء من سور النهر وحتى السرايا العتيقة، ليتحول بعد ذلك إلى شارع واسع للسيارات».
وأشار طرطوسي إلى «أن مهنة النحاسين في بداية القرن الماضي كانت ناشطة ومربحة لكونها تتعلق بضروريات الحياة اليومية لجهة صناعة الأدوات والأواني المنزلية، لكن مع تطور هذه الصناعات وإنشاء الشركات التي تصدر منتجاتها من الألومنيوم والستانلس إلى لبنان بأسعار مقبولة، يمكن القول إن مهنة النحاسين قد اندثرت، وبات الأمر يقتصر على صناعة بعض الأواني التي تستخدم في معامل الحلويات، والتذكارات».
أضاف: «على الرغم من كل ذلك، فإن هذه الصناعة المستجدة تشهد أيضاً تراجعاً كبيراً نتيجة غلاء النحاس الخام وإغراق الأسواق اللبنانية بالمنتجات المستوردة. كما أن السوق اليوم تحول إلى مرأب للسيارات، وفقد قيمته سوقاً تراثياً، ما انعكس سلباً على أصحاب هذه المهنة ودفع بالكثيرين إلى إقفال محالهم».
ويأمل شاغلو سوق النحاسين في مدينة طرابلس أن ينجح مشروع الإرث الثقافي، الذي ينفذ بتمويل من البنك الدولي، في إعادة الطابع الأثري والحضاري للسوق، ليشكل بالتالي عامل جذب للسياح ويسهم في تطوير الحركة التجارية فيه، حيث إن المرحلة الأولى منه ستطال موقع السوق ومحيطه، من سوق البازركان والمنطقة الممتدة من خان العسكر وجامع التوبة حتى نهر أبو علي وسوق النحاسين، وبمساحة حوالى 1200متر مربع، وتشمل تركيب رفاريف، شماسي، وأبواب، كل حسب الحقبة التاريخية التي يعود إليها. ويشمل هذا الجزء من الأشغال تأهيل كامل البنى التحتية، كما يشمل تأهيل الساحات العامة وتشجيرها وتأهيل الشوارع ورصفها بحجر البازلت والحجر الطبيعي. وتبلغ كلفة الأشغال حوالى 3,5 ملايين دولار أميركي.
سوق النحاسين يفتح أبوابه أمام الزوار صباح كل يوم كباقي محالّ طرابلس، وتشهد محاله حركة خجولة جداً تصل أحياناً بأصحابها إلى حالة الضجر، فتسيطر الأركيلة على الموقف، في محاولة لقتل الضجر الطويل الذي يخترقه في بعض الأحيان تجوّل للسياح والمغتربين، وعدد ضئيل من أبناء المدينة الذين لا تزال مصالحهم أو طريقة عيشهم تربطهم بهذا السوق.