جان عزيز
لم ينجلِ غبار لقاء شرم الشيخ بين وزيري الخارجية الأميركية والسورية، كوندوليزا رايس ووليد المعلم. أو على الأقل فإن صورته اللبنانية لم تتظهّر بعد. مع أن بعض المراقبين يعتقد أن نتائجه الأوليّة لا بد أن تكون قد وصلت إلى المعنيين في بيروت، عبر رسائل «ستينوغرافية» عاجلة بين كل من واشنطن ودمشق والعاصمة اللبنانية. على أن تبلّغ التفاصيل لاحقاً في اتصالات ينتظر أن تكون قد بدأت وتتوالى.
الجمود الحاصل اليوم، قد يكون انعكاساً لعمليات «البريفينغ» الأوليّة هذه. وقد تكون تعبيراً عن مجرّد الوقوف في محطة انتظار النتائج الفعلية والنهائية. لكن المعطيات الأوليّة تشير إلى استمرار وجود قراءتين مختلفتين، للحدث نفسه.
فريق 14 آذار يحاول إظهار اطمئنانه إلى لقاء شرم الشيخ. وهو يستدلّ على ارتياحه هذا بما سبق وتخلّل وسَيَلي. في القبل تتحدث أوساط هذا الفريق عن الرسالة الجامدة التي حمّلها الرئيس الأميركي جورج بوش لناظرة خارجيته، لتنقلها إلى النظامين السوري والإيراني. وفي ما تخلّل اللقاء تشير الأوساط نفسها إلى التعبيرات السلبية جداً على خط واشنطن طهران، وإلى بعض الهمس والتسريب عن لوم وعتب واستيضاح بين الحليفين الإيراني والسوري. أما في ما سيلي فلا تزال أوساط 14 آذار، تتحدث عن الحرب المقبلة، وتحدّد شهر حزيران 2007، موعداً لها. بعد اندلاعها تعود الأجندة الموعودة إلى سكّتها: محكمة، فانكفاء سوري فكسر للجسر الاستراتيجي بين «حزب الله» وإيران، فقفز لأحدهم من المركب المثقوب، فانطلاقة للحلحلة والحل... عبر مجلس النواب.
باختصار يتطلّع فريق 14 آذار إلى لقاء شرم الشيخ، وخصوصاً إلى المحادثات بين رايس والمعلم، على أنها تكرار للمحادثات الشهيرة بين نظيريهما، جايمس بايكر وطارق عزيز، في الأمم المتحدة في نيويورك، في الساعات الأخيرة التي سبقت شن الحرب الأميركية ــــــ الدولية الأولى على العراق لإخراج جيشه من الكويت في كانون الثاني 1991. أصلاً لم يقتنع بعض فريق السلطة في لبنان، كما بعض الإدارة الأميركية في واشنطن، بأن هذه المهمة ــــــ الإنذار الأخير، ليست من ضمن ما كلّف به بايكر عبر لجنة دراسات العراق، وبالتالي ما كلّفت به رايس في لقاءاتها الأخيرة. «أولتيماتوم» أميركي ــــــ دولي جديد، تبلّغه الجميع في المنتجع المصري، بعده يبدأ العد العكسي لحرب الخليج الرابعة. وبالتالي يستقرّ فريق 14 آذار على شعاره المطمئن: ليس أمامنا غير الصمود بضعة أسابيع.
في المقابل يبدو بعض المعارضة في أجواء مناقضة كليّاً. لقاء شرم الشيخ هو اللحظة التي راهن عليها نظام بشار الأسد منذ ثلاثة أعوام، منذ التقى جورج بوش وجاك شيراك في قمة الدول الثماني في إيفيان، وقرّرا «الاتفاق» على لبنان. مذذاك حسمت دمشق خيارها بالمواجهة والممانعة وعبور الصحراء، حتى يرحل سيد الإليزيه ويكتشف سيد البيت الأبيض ما سبق لأسلافه أن تحققوا منه عن ثوابت الجيوبوليتيك الشرق أوسطية، من إيزنهاور إلى ريغان إلى والده بالذات.
العودة إلى شهر العسل السوري ــــــ الأميركي، تلك كانت عنوان الرهان السوري. وليست مصادفة أن تلك الحقبة كانت مرمّزة بلقاءات وليد المعلم وجايمس بايكر نفسيهما، في معهد الدراسات الذي يحمل اسم الأخير، في جامعة رايس، في هيوستون تكساس. دارت الأحداث، من وجهة النظر السورية، دورة كاملة في ثلاثة أعوام. عادت أجواء لقاء «الصديقين»، وفي صلب تبلورها نقطة رابعة طرحها تقرير بايكر، حلاً أخيراً للخروج من المستنقع العراقي: التعاون مع دول الجوار البغدادي. أي عودة الاتصال مع طهران، وطبعاً مع دمشق.
في زيارته الأخيرة إلى العاصمة السورية كشف كاتب «نيويورك تايمز» الأشهر، توماس فريدمان، أن الرئيس الأسد عرض عليه مراسلاته الخطية مع واشنطن لمعاودة التفاوض. وأظهر فعلياً مقدار «العروض» السورية والتعنّت الأميركي. لكنه طمأنه ــــــ وطمأن نفسه أولاً ــــــ إلى أن هذه الحال لن تدوم. اليوم، لا بد أن الأسد يعتقد أنه قادر على القول لمنظّر الوجود السوري في لبنان ونظرية «الدولة بنظامين»، أما قلتُ لك؟!
هكذا تعتقد أوساط بعض المعارضة أن سلسلة الانزلاق السوري قد انتهت. وأن لحظة الانعطاف قد اجتيزت، لحظة تصافح رايس والمعلم. بعدها زمن آخر.
بين القراءتين المتناقضتين، يفتش اللبنانيون عن مصلحة كيانهم وناسهم. هل تكون في الحرب الأميركية على إيران، مع تداعياتها المتخيّلة في بيروت، قياساً إلى 12 تموز الماضي؟ أم تكون في بداية تقاطع أميركي سوري، مع ما لذلك من مخاطر معروفة، قياساً إلى تجارب ثلاثين عاماً ماضية؟
بعض زوار وليد جنبلاط ينقل أجواء قريبة من سوداوية هذه الجدلية. ويجتهد بأن إشارات سيد المختارة منذ ثلاثة أسابيع، ليست إلاّ إرهاصات أوليّة في هذا الاتجاه. فحين يتحوّل لبنان بعضاً من المجاهل الأفريقية، في الرهان على «محكمة رواندا»، لا بد للمراهنين أن يتذكروا مثلاً أفريقيّاً شهيراً: حين تتصارع الفيلة يُسحق العشب تحتها، وحين تتحابّ، يسحق أيضاً.