نقولا ناصيف
يشق الوضع الداخلي طريقه إلى مزيد من التصعيد كلما اقتربت البلاد من انتخابات رئاسة الجمهورية. ورغم الإشارات التي يطلقها طرفا النزاع، قوى 14 آذار والمعارضة، بأنهما ليسا في صدد دفع هذا الوضع إلى الهاوية، فإن اتجاهات السجال السياسي يوماً بعد آخر وملفاً تلو آخر، التي تعكسها أوساط الفريقين ترجّح صيفاً سياسياً ساخناً. ذلك أن الغالبية تتصرّف وكأن إقرار مشروع المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري خرج من يدها تماماً، وهو يوشك أن يصبح حقيقة، فيما يعبّر إصرارها على انعقاد مجلس النواب قبل نهاية الشهر الحالي عن حجم الصعوبات التي يواجهها إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن. كذلك حال المعارضة التي تقفز في مواجهتها مع قوى 14 آذار من مشكلة إلى أخرى، من دون أن تتيقّن من إمساكها بزمام المبادرة.
يصحّ ذلك أيضاً على الاستحقاق الرئاسي. تريد المعارضة الرئيس ميشال عون مرشحاً لها، ويطرحه بعض أركانها على أنه نموذج «المرشح التوافقي»، الأكثر صدقية والأكثر تمثيلاً والأكثر شعبية، وتصطدم في الوقت نفسه بحقيقة مربكة هي أن تسوية سياسية محتملة مع الفريق الآخر على الاستحقاق تُسقط مثل هذا الشرط فوراً. أما قوى 14 آذار فتصرخ، في الاستحقاق، في واد آخر. فما تحتاج إلى إمراره هو غطاء دولي يُخرج انتخابات الرئاسة اللبنانية من أزمتها. ويبدو استناداً إلى ما يُنسب إلى مصادر دبلوماسية عربية وغربية معنية مباشرة بالاستحقاق الرئاسي، أن هذه لم تبدي حتى الآن تأييداً صريحاً لخطوة تلوّح الغالبية بالإقدام عليها، وهي إجراؤها الاستحقاق الرئاسي منفردة بمعزل عن مشاركة المعارضة فيه، وبالتعويل على النواب الـ70 المنضوين في قوى 14 آذار لإنجازه، وانتخاب رئيس للجمهورية من صفوف هذه القوى يكون في موقع مطابق للذي فيه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة: رئيس ثان لقوى 14 آذار يمكّنها من السيطرة تماماً على الحكم والسلطة التنفيذية.
وعلى غرار التجاذب الدولي الذي يحول، حتى الآن على الأقل، دون استعجال إقرار مشروع المحكمة الدولية في مجلس الأمن، فإن تدويلاً مبكراً للرئاسة يبدو حتى الساعة مجازفة.
في حمأة هذا الواقع، لا دعوة للهيئة العامة لمجلس النواب إلى الانعقاد قبل 25 أيلول المقبل، غداة بدء المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، في ظل التصعيد الذي يواجه به نواب الغالبية الرئيس نبيه بري. وللأسبوع الثامن على التوالي تجمّعوا أمس في تظاهرة ترمي إلى مزيد من الضغط على رئيس المجلس لحمله على الدعوة إلى جلسة عامة لمناقشة مشروع المحكمة الدولية.
يقترن ذلك بمعطيات معاكسة، بمثابة ردّ على هذا التصعيد:
1 ـــ لا دعوة إلى أي جلسة عامة يعقدها البرلمان ما دام نواب الغالبية يعزفون على وسيلة الضغط هذه في محاولة لإحراج بري.
2 ـــــ لن يسمح رئيس المجلس بالتعرّض للصلاحية الحصرية التي ينيطه بها النظام الداخلي لمجلس النواب، وهي أنه هو، وحده، مَن يدعو مجلس النواب إلى الانعقاد، ولا جعل هذه الصلاحية جزءاً من السجال السياسي والقانوني القائم لإحالتها سابقة للمستقبل. والواقع أن بري اختبر فاعلية هذه الصلاحية، السياسية الوحيدة تقريباً، بين سواها التي يفوّض إليه النظام الداخلي القيام بها كرئيس للمجلس.
3 ـــــ لا يبدو في الوارد انعقاد المجلس في الأسابيع الثلاثة الباقية من العقد العادي الأول الذي ينتهي في 31 من أيار. الأمر الذي يعني أن المجلس لن يعود إلى الاجتماع إلا مع بدء المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد، وسيتحوّل إذذاك هيئة ناخبة تقتصر مهمتها على انتخاب خلف للرئيس إميل لحود. مغزى ذلك أن المدة الفاصلة بين انقضاء العقد العادي الأول واعتبار المجلس ملتئماً في المهلة الدستورية، لن يشهد عقداً استثنائياً للأسباب نفسها التي حالت حتى الآن دون موافقة صاحب الصلاحية الدستورية، أي لحود، على إصدار مرسوم بذلك بسبب نظرته إلى حكومة السنيورة على أنها فاقدة الشرعية الدستورية والميثاقية.
وعلى غرار تجاهله عريضة نواب قوى 14 آذار في كانون الثاني الفائت بدعوتهم إياه إلى إصدار مرسوم بفتح عقد استثنائي للمجلس حتى آذار لإقرار مشروع المحكمة الدولية، سيتجاهل لحود ثانية عريضة كهذه إذا وُجّهت إليه.
4 ـــــ يُسقط عدم انعقاد البرلمان، في الأيام الباقية من العقد العادي الحالي، أي فرصة لتعديل دستوري بغية إجراء انتخاب رئاسي مبكر، لكون ذلك يتطلب التئام المجلس في عقد عادي. وفي أي حال لم يكن ليتوهّم أحد، في قوى 14 آذار كما في المعارضة، أن رئيس الجمهورية سيتخلّى عما بقي من ولايته طوعاً، أو أنه سيدخل في صفقة سياسية تقصّر ولايته الرئاسية وتمهّد لانتخاب خلف له، أو حتى تسليمه بتعايش بينه وبين رئيس منتخب لا يتسلّم صلاحياته إلّا بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي.
بل الواضح أن إصرار لحود على الاستمرار في منصبه لا يقتصر على شغف البقاء حتى الدقيقة الأخيرة من الولاية الدستورية ـــــ وهو شغف تقليدي متوارث من سلف إلى خلف ــــ وإنما لاستخدام جزء من صلاحياته لتوجيه المرحلة المقبلة إذا بدا له أن البلاد مقبلة على فراغ دستوري ناجم عن تعذّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وما تشيعه أوساط المعارضة من خيارات دستورية يحتفظ بها رئيس الجمهورية إلى اللحظة المناسبة، تكتسب جديتها من هذا الواقع، وخصوصاً بالنسبة إلى تأليف حكومة انتقالية يسلّم إليها صلاحياته.
ولعلّ الملاحظة هنا أن لحود يريد أن يقتدي بالرؤساء كميل شمعون وسليمان فرنجيه وأمين الجميل الذين دعاهم معارضوهم إلى التنحي عن الرئاسة قبل انقضاء ولايتهم الدستورية، فرفضوا وأمضوا الدقيقة الأخيرة فيها.
لكن الأهم المفيد أيضاً أن شمعون، دون سواه من الرؤساء الموارنة المتعاقبين، أمضى ولاية رئاسية كاملة زائدة يوماً واحداً من حساب ولاية خلفه. انتخب في 23 أيلول 1952 وسلّم قصر القنطاري إلى الرئيس فؤاد شهاب الذي أقسم اليمين الدستورية يوماً متأخراً من بدء الولاية الجديدة، في 24 أيلول 1958.