جان عزيز
هل بدأت مفارقة «التقاطع» الرئاسي، بين القادة المسيحيين، وخصوصاً الموارنة منهم؟ سؤال بات مطروحاً بعد سلسلة المواقف المسجّلة في اليومين الماضيين، من أمين الجميل وميشال عون وسمير جعجع... وحتى شارل رزق.
إشكالية «التـــــــقاطع» الممكن، أو المحتمل، هذه، لا تفهم إلاّ على ضوء بعض التاريخ والتجارب الماضية وفهم المواقف. يروي أحد الذين تـــــــولّوا التنسيق اليومي بين قائدي الجيش و«القوات اللبنانية» في حينه، العماد عون والدكتــــــور جعجع، في النصف الثاني من الثمانينيات، أنــــــــه كان يقــــــوم بجولات من الاتصــــــــالات الهاتفـــــــية بين الرجلين، وبسلســـــــلة من الزيارات المكوكيــــــة بين اليــرزة والكرنتينا يومها، للتوصّل إلى تقاطع الرجلين على أي تفصيل سياسي أو ميداني بينهما.
غير أن استحقاقاً واحداً لم يتطلّب منه أي جهد. كان ذلك يوم وصل ريتشارد مورفي إلى بيروت بعد أيامه الدمشقية الثلاثة، في 18 أيلول 1988. من بعبدا إلى بكركي أعلن المبعوث الأميركي خلاصة مساعيه: اتفاق واشنطن والشام على اسم مخايل الضاهر. من دون وساطات ولا تنسيق ولا حتى اتصال، تقاطع الموقفان الفوريان لكل من عون وجعجع: رفض الفرض الرئاسي. لم يكن الوسيط في حاجة إلى أي زيارة، ولا أي هاتف. ممنوع أن يفرض الخارج اسم الرئيس الماروني، بمعزل عن صاحب الاسم وشخصه. توافق الاثنان وسقطت «المؤامرة». بعد أيام ثلاثة حاول الرئيس أمين الجميل القيام بخطوة أخيرة، سافر إلى دمشق في زيارة أخيرة له، فانتقل جعجع إلى اليرزة في سيارة جبران تويني، تكرّست وحدة الموقف المسيحي وكان ما كان.
هل يتكرّر السيناريو نفسه بعد بضعة أشهر؟ البعض يسارع إلى القول إن المسافة بين الرجلين باتت أبعد من أي تقارب. غير أن وقائع عام 1988 تدحض هذه الفرضية. والذين يذكرون تلك الفترة، يُذكّرون أنه في أيار من ذلك العام، أي في مثل هذه الأيام بالذات، كانت العلاقة بين اليرزة والكرنتينا، قد بلغت حد «الانتفاضة» المسلّحة في 4 أيار، ثم وصلت إلى التصادم العنفي على خلفية احتجاز وزير الدفاع الراحل في حينه، عادل عسيران، بعد أسابيع قليلة. غير أن مساعي مورفي الحميدة، كانت كافية لمحو تلك الغيوم، بسرعة البرق الرئاسي.
هل من مؤشرات لاستعادة السياق نفسه؟ بعض المراقبين المعنيين بالتطورات الراهنة، يتوقف باهتمام عند الحسابات المفترضة والمواقف الملازمة لها، والمسجّلة أخيراً، وأبرزها الآتي:
ــ 1 ــ لجهة العماد ميشال عون، يعتقد هؤلاء ان الجنرال ينطلق من مشروعية ترشيحه الرئاسي، على قاعدة تمثيله غالبية مسيحية، تحوّلت غالبية لبنانية مفترضة بعد التفاهمات والتحالفات المعروفة. غير أن هذه المشروعية تنتظر تبلور تسوية داخلية أولاً، وخارجية ثانياً، تنتهي إلى معادلة تأمين نصاب الثلثين، في لحظة تقاطع لبناني ــ أميركي ــ إقليمي، بما يقتضي اختيار عون رئيساً للحل المربّع: ضمان ميثاق العيش المشترك عبر شراكة مسيحية رئاسية يمثلها الجنرال. تفاهم مع «حزب الله» حول معضلة سلاحه. إرساء تسوية سيادية مع ما بقي من الملفات الخلافية العالقة مع دمشق. وأخيراً قبول أميركي مندرج في سياق التسوية الكاملة هذه.
ــ 2 ــ لجهة الدكتور سمير جعجع، يزعم المراقبون أنفسهم أن «الحكيم» ينطلق من مشروعية مماثلة لطموحه الرئاسي. لكن هذه تراهن على لحظة المأزق الرئاسي، والوصول إلى ضرورة الانتخاب على قاعدة نصاب النصف زائداً واحداً، أو جلسة النواب السبعين عملياً. بحيث تجد الأكثرية الحريرية نفسها، كما مَن يدعمها عربياً وغربياً، أن اللجوء إلى جعجع ضرورة لا بد منها، لتغطية مثل هذا الحدث، مسيحياً وعملانياً. على قاعدة المواجهة المثلّثة: مع عون في الداخل المسيحي، ومع «حزب الله» في الواقع اللبناني، ومع سوريا إقليمياً.
غير أن المراقبين أنفسهم يلاحظون أن ثمة تمايزات وتباينات بدأت تظهر بين موقفي كل من عون وجعجع، وبين مواقف حلفائهما. فلناحية الأول، يسجّل تحفظ دائم ومفهوم من «حزب الله»، يزيده كلام أكثر وضوحاً لنبيه بري حول سيره بكلمة بكركي رئاسياً. ولناحية جعجع يسجّل سعي حريري دائم وثابت إلى «طبخ» رئاسي في أكثر من عاصمة نافذة واتجاه شخصي ممكن.
هكذا فيما يبدو رهان عون على التسوية لتعزيز حظوظه، يبدو تصرّف أصدقائه أقل انسجاماً مع سعيه. وفيما يبدو رهان جعجع على «المواجهة»، تبدو سلوكيات حلفائه وكأنها غير متطابقة مع حساباته. ويتابع المراقبون أن هذه الملاحظات بالذات، هي ما يفسّر ربما الحديث الدائم همساً عن «عتب» و«لوم» داخل كل فريق، كما المواقف المفارقة أحياناً، مثل كلام جعجع عن إمكان توافق مع عون، أو كلام وزير العدل الاتهامي لمرشحين رئاسيين من داخل 14 آذار، على خلفية بنك المدينة.
هل يقترب خريف 2007، حاملاً خياراً رئاسياً مفاجئاً، وسط تسوية خارجية وداخلية بين حلفاء عون وجعجع، بما يدفع الرجلين إلى التقاطع كما حصل قبل 19 عاماً؟ مسألة تستحق المتابعة والاعتبار واستخلاص الدروس من تلك الحقبة بالذات.