أنسي الحاج
أجمل ما في هذه القوّة هو هذا الضعف. أجمل ما في هذا الصدر هذا السهم. أجمل ما في هذه المأساة، الحنان الذي في عيون ضحاياها. أجمل ما في هؤلاء الضحايا وعيُهم لجرْح وعيهم.

في كتابةِ ما لا يُلاحَظ شَبَهٌ بالاختلاس. في ممارسة الاستتار شيء من السرقة. كلما أوغَلَت الفضائل في دنيا الظلال ازدادت قرباً من التنكُّر، مع أن الفضيلة، في المبدأ، سعيٌ جوهريٌ نحو معانقة الحقّ عناقاً عارياً.
... كأنَّ الحقّ منشولٌ نَشْلاً من جيب الباطل!

معرفتي إيّاك غير مهمّة إلاّ بأسلوبها. هناك معرفة ديّانة، ومعرفة مرحّبة. المحاسب الديّان قد تعينه فراسته على معرفتك أكثر لكنَّ محكمته ستحبطك. معرفتي إيّاك غير مهمّة إلّا بازدهاركَ فيها.

أكثر ما يَقْتل الأشياء هو قولُها. القول مرّة يجلوها، مرّتين يؤاخيها، فوق ذلك يُدجّنها، وأكثر: يُلغيها.
اعتدنا ترداد «في البدء كان الكلمة». ربما «كان كلمة»، لكننا ننسى أنها مذكورة بالمُفْرَد، ومقرونة بـ«البدء». للبدء فقط، للإقلاع، لا للعَلْك.
أفكّر في اللغة السياسية المتداولة. لغة لم تغسلها دماء الضحايا طوال ثلث قرن ماذا يُرجى منها؟
كلّما أوشكتْ قضيّة أن تُطلّ على حقيقتها، صوّبنا عليها وابل الألفاظ وأرديناها.
أهلُ العَدَم بالكلمات.

يضع العاشق في النظر إلى وجه المعشوقة أكثر بكثير ممّا يضع في أي أسلوب آخر من أساليب العلاقة معها. الوجه هو «أكثر»، بما لا يُقاس، من الجسد. الوجه هو إمّا الجدار وإمّا اللانهاية.

الإنسان يعطي الآخرين نقصه.

سيّدة اعتادت أن تقول: يجب أن يعيش الفنّانون والشعراء في عالمٍ وحدهم، محميين من سائر الخلق.
ليت ذلك كان ممكناً، على أن يشمل تعريف الفنّانين والشعراء أشخاصاً «عاديّين» لا يحسبون أنفسهم أحداً، ولكنهم شعراء أكثر من الشعراء وفنّانون أكثر من الفنّانين، وأجمل من معظم اللوحات الفنّية ومن كل الأفلام الخلاعيّة التي يفوقونها إثارة ببساطتهم وتحت معاطف أخلاقهم الخادعة.

أضعف النفوس مَن تعجز عن رؤية ما يَمْنعها من إظهار احتقارها.

«صار هو ما كان يَنْظر إليه». (وليم بليك).

ليس في كلمة «حبّ» إلاّ تجميع لمعاني الانخطاف.

يمتلك المعشوق كلّ ما للعاشق. المعشوق هو كنزه معاراً إلى جَسَد.

طبعاً هو انبهارُ المرة الأولى
وارتجافه
وإثارته للسخرية
ورتابة تكراره
ورتابة استعادة الوعي.
ما الجدوى من إدراك ذلك؟
وهل يُستطاع غيره؟
ليس حيوان البريّة وحده مَن تبهره الأنوار
بل الملائكة أيضاً
وليس بالأنوار وحدها بل أيضاً بالعتمة والغياب.

كان سُمّ الأفعى يَقْتل وأصبح مَصْدَراً للدواء. كان الجمال يقود إلى الموت، وسوف يأتي يومٌ يحمي فيه الجمالُ صاحبَه وعابدَه من الموت.

يلامس جمالُكِ الخلود. ينظر الناظر إلى وجهكِ فلا يرى لمتعة الحواس نهاية. يخلّد الخَلْق الفني هذا الشعور بالجمال، لكنّ العدل يقضي بأن لا يفنى المُلْهِم أيضاً لا المُلْهَم وحده.
اعتادت التقاليد أن تمجّد دوماً خلود التمثال وتبكي موقتاً فناء البشر. «الجميع زوّالون ويبقى الفن».
هراء. عندما تتردّى الشماتة بالذات إلى هذه المنحدرات تكون الصعلكة البشريّة قد بلغت قمّتها.
الآيات الحيّة أجمل من الآيات الأدبية والفنيّة. ما نمجّده في الثانية ليس فضيلة بل هو انتصار الباطل علينا. الحقّ هو أن يعيش الجميل خالداً في صباه سواء كان بشريّاً حيّاً أو فنيّاً في المكتبة والمتحف والشريط.
جمالكِ أحقُّ بالديمومة من الشمس والقمر، ولن تكون لوحتُكِ أو الشعر المستوحيكِ أكثر من اعترافٍ محنَّطٍ بالهزيمة.

يروي الجلّاد في عهد الثورة الفرنسيّة المدعوّ «شمشون» أن الدوك دوشاروست كان وهو في العربة التي تسوقه إلى المقصلة يطالع أحد الكتب. وقبل أن يبدأ صعود الدرجات نحو الإعدام، ثنى زاوية الصفحة.

تتشوّق النفس أحياناً إلى البشاعة كما يتوق الشكّ إلى يقين مدمّر. البحث عن الحقيقة يكون مرّات، في الفلسفة أو في التحقيق البوليسي، تلبية لنداء هدّام مخفيّ في طوايا النفس، أو جهداً لرفع الغطاء عن فظائع تَشْفي الغليل وفي الوقت نفسه تُري الإنسان كم كان عهدُ ما قبل رفع الغطاء أقلّ مدعاةً لليأس...

يجب أن يكون هناك عذر للفن، عذر يُنسي أو يُخفّف التحرّش بحواس المتلقّي.
العذر هو، على الأرجح، إحداث «اللحظة الساحرة». حتّى ليمكن القول: لحظة يتغيّر فيها الكائن.
لوحة لا تؤدّي دوراً كهذا فيمَ تأخذ النظر؟ غناءٌ لا يَمْتلك، لا يَعتصر، هل يكون غناء؟ كتابةٌ لا تَحلّ بالقارئ حلول الحلم أو الصاعقة ــــــ وكلّنا نرتكبها ــــــ لماذا تكون؟
لو أعاد المؤلّفون النظر في آثارهم بمثل هذا المقياس لأتلفوا الكثير منها. لا يُستثنى أحد. خاصة اليوم في ظلال الحداثة، حيث تراجع «الانسحار» لحساب «التذوّق» وبات لكلّ نتاجٍ دُعاته و«مبرّروه»، ومفاتيح «الإنتاج» صارت توزّع في الجامعات والغاليريات وشركات التسجيل والصحف والتلفزيون، فضلاً عن الإنترنت. تبدو المقاييس ضائعة، وفي الغرب قبل الشرق. تراجَعَ خوف الفنّان من الإسفاف لحساب خوف الناقد من التجنّي، فتعمّم القبول، وانحسر النقد إلى أكاديمي اختصاصي وصحافي يُسمّى «تغطية»، وكاد ينقرض الباحثون المُلْهَمون عن الينابيع والمياه الجوفيّة. لقد انفقدت الرسوليّة النقديّة المنيرة، إلاّ في حالات نادرة قلّما يُشار إليها لغَرَقها في المحيط المناقض لها. كان الكاتب يستحقّ سلطته المعنوية من نوعية قلمه فصار يكتفي باحتلال منبر إعلامي ليحوّله سلطة لا يحتاج معها إلى استحقاق جوهري. المَظْهريّة اجتاحت القيم، وتعميمُ الأخبار ووسائل الاتصال توَّجَ ديموقراطية التناسخ و«المديوكريتي».
يلوح على هذا الكلام طيف مثاليّة رومنتيكيّة. ربّما. لعلّها بالأحرى مثاليّة رافقت جميع العصور. الرومنتيكيّة، بالعكس، لم تكن الأشدّ صرامة في حسّها النقدي وإن تكن أشدّ انحيازاً إلى مقاييس معيّنة استحدثتها هي. الحنين هو في الحقيقة إلى ما نتخيّل في سذاجتنا أنه كان دوماً سيّداً: الجديّة محل الخفّة، الداخلي محلّ المظهري، التجربة الفذّة محلّ التقليد... إلى آخره ممّا هو بديهي وبات يبدو مستحيلاً.

هناك تيّار خَفيّ يقول للمحبوب إنه محبوب. البوح اللفظي لا يزيد، وأحياناً يُنْقص.

تُخفين حبّكِ فلا يَظهر. تُخفي حبّكَ فيظهر. روح المرأة كجسدها الجنسيّ، طيّات وراء طيّات. الرجل يهبط على الحب هبوط السائح في كوكب لا يُتقن من لغته إلاّ الواجهة ذات الدلالات المباشرة. مبتدئ في ديانة أمام كاهنة تختلط جذورها في الكهانة بجذور الأرض.

ليت الجمال كبعض الرؤى لا يَظْهر إلاّ للرائين.