نقولا ناصيف
أنهى اللقاء الذي جمع الرئيس إميل لحود والبطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أمس في قصر بعبدا قطيعة استمرت سنة بين الرجلين. منذ آخر لقاء بينهما، في 11 حزيران 2006، إثر مشاركة رئيس الجمهورية في احتفال سيامة خمسة مطارنة واجتماعه بالبطريرك في خلوة على هامش الاجتماع. بذل وسطاء جهوداً لجمعهما رفعت من وتيرتها مظاهر الانزعاج التي عبّر عنها لحود عقب تلقيه من سيد بكركي رسالة نقلها نائبه العام المطران رولان أبوجودة، قبل سبعة أشهر، وتضمّنت رغبة البطريرك في تنحي لحود لإخراج البلاد من مأزقها. كانت تلك سابقة في علاقة الكنيسة بالرئاسة اللبنانية، بأن تتوجّه إلى الرئيس الماروني وتلفته ضمناً إلى عجزه وتحضّه على التنحي، مجارية فريقاً سياسياً يقول بذلك.
في الغالب اتهم رئيس الجمهورية الماروني بالتدخّل في شؤون البطريركية، شأن ما قيل عن الرئيس بشارة الخوري ضد البطريرك مار أنطون بطرس عريضة بين عامي 1945 و1948، وما قيل في مطلع الستينات عن الرئيس فؤاد شهاب ضد البطريرك مار بولس بطرس المعوشي بعدما وجّه الفاتيكان انتقادات إليه لخلافه في بيروت مع القاصد الرسولي أليغراندي، كذلك لمآخذ الفاتيكان على سياسة البطريرك إبان «ثورة 1958» وبدت مغالية في مراعاتها التيار الناصري ضد عهد الرئيس كميل شمعون. في المقابل تدخّل بطاركة في النزاع الذي كان ينشب بين رئيس الجمهورية ومعارضيه، تارة لأسباب سياسية وأخرى تتصل بتجديد ولايته، كحال المعوشي مع شمعون وشهاب.
بعد مقاطعة لحود المشاركة التقليدية في الفصح الأخير، في نيسان الفائت، تواصلت مساعي الوسطاء. في غضون ذلك ردّد صفير مآخذه على العزل السياسي والدبلوماسي الذي أحاط بمنصب الرئاسة وأضعفها وأخرجها من دائرة التأثير، من غير أن يُقدم رئيس الجمهورية على اتخاذ قرار ما.
الخميس الفائت، اتصل لحود بصفير وهنأه بسلامة العودة من الفاتيكان، ودعاه إلى غداء. التقيا أمس في خلوة اقتصرت عليهما في بيت الرئيس في قصر بعبدا، ثم إلى الغداء.
جاء لقاء البارحة ليبدّد انطباعات سلبية رافقت مواقف الرجلين، مذ شارك رئيس الجمهورية في قداس الفصح ربيع 2006 وتوجّه البطريرك إليه بدعوته إلى «تحكيم ضميره» حيال بقائه في منصبه، وسط تصاعد حملة قوى 14 آذار منادية بإسقاط لحود. حينذاك فسّر كل من الرئيس والبطريرك العبارة على طريقته. اعتقد رئيس الجمهورية أنه ببقائه في الحكم يستلهم ضميره وما يرتبه عليه الدستور حتى نهاية الولاية. أما البطريرك فكان يسعى إلى إنقاذ الرئاسة المارونية وإخراجها من التجاهل.
لم تكن تلك المرة الأولى. في قداس ميلاد 2005 خاطب البطريرك الرئيس بعبارة مماثلة: أن يجد حلاً لمأزق الرئاسة .
وهكذا انقطع الحوار بين الرجلين، إلا أن معاودة اللقاء بينهما قد بلور ملاحظات عدة:
أولها، أن لا علاقة للقاء بزيارة البطريرك الفاتيكان أخيراً، لكون الاجتماع حصل برغبة من لحود. إلا أن اجتماع الرجلين وضع حدّاً للغط الذي أحاط بالعلاقة التي طبعتها البرودة في الأشهر الاخيرة، وأعاد تأكيد دور البطريرك مرجعاً معنياً مباشرة بانتخاب رئيس الجمهورية، وقد حُرم هذا الدور منذ انتخاب الرئيس إلياس الهراوي عام 1989 تحت وطأة النفوذ السوري في لبنان. في المقابل أعاد اللقاء الاعتبار، وإن ظاهراً، إلى رئيس الجمهورية ودوره في الاستحقاق، على أساس أنه معني رئيسي بإجرائه، خلافاً لموقف التجاهل الذي تجسده قوى 14 آذار. والواضح أن زيارة البطريرك، توقيتاً ومضموناً، بينّت أهمية دور لحود.
ثانيها، سواء قيل إن ما تداوله الرجلان كان قيّماً ومفيداً أو مجرّد طبخة بحص ـ والأرجح هو التقدير الثاني ـ فإن كلاًّ منهما عرض وجهة نظره من الأوضاع والتطورات مذ انقطعا عن التواصل قبل عام. وفي واقع الحال يختلف المرجعان المارونيان حول كمّية كبيرة من الملفات، أبرزها شرعية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وسلاح حزب الله، وعدم التئام مجلس النواب، والاعتصام المفتوح في الشارع، وحكومة الوحدة الوطنية، والمحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والاستحقاق الرئاسي في جوانبه الدستورية والقانونية، والمعالجات الاقتصادية، ونتائج حرب تموز، والعلاقات اللبنانية ـــ السورية وتلك التي مع فرنسا والولايات المتحدة. تالياً لم يكن أحدهما ينتظر من الآخر الاقتناع بوجهة نظره، لكنهما بسّطا مواقفهما. بذلك فإن الغموض الذي رافق ما أعلن عن نتائج الاجتماع في موضوع مواجهة فراغ دستوري في الرئاسة عبّر عن أن لكل منهما موقفاً متعارضاً مع موقف محاوره. والخشية من الخطوة التي حذّر البطريرك من الإقدام عليها بتأليف حكومة ثانية، لم يتلقفها لحود وينفها لمحدثه، بل اكتفى بالقول لصفير إنه سيقوم بما ينصّ عليه الدستور.
وما دام لحود ـــ خلافاً لصفير ـــ يرى حكومة السنيورة غير شرعية، فإنه يحتفظ لنفسه بالمخرج الذي سيقرّره إذا وصلت البلاد إلى الاستحقاق، وتعذّر التوافق على الرئيس المقبل للجمهورية. والمقصود بذلك أنه لن يسلّم إلى حكومة السنيورة صلاحياته الدستورية.
ثالثها، أن ما التقى عليه رئيس الجمهورية والبطريرك الماروني بالنسبة إلى إجراء الإنتخابات الرئاسية في موعدها، لا يمثل المكافأة المنتظرة من هذا اللقاء.
وبحسب مطلعين على فحوى المداولات، أكد صفير لرئيس الجمهورية ما كان أعلنه لدى انصرافه، وهو أنه لن يسمّي مرشحاً لرئاسة الجمهورية على نحو مطالبة البعض. تالياً اكتفيا بعرض المواصفات المطلوبة للرئيس الجديد، فيما لم يقدّم لحود لسيد بكركي أكثر من قوله له إنه مستعد لتسهيل ما من شأنه إجراء الإنتخابات الرئاسية في المهلة الدستورية، مع إصراره على أن حكومة السنيورة غير دستورية وغير ميثاقية، وأنها عاجزة عن مواجهة استحقاقات المرحلة المقبلة، لكنه ارتأى أن حلاً مقبولاً لإجرائها طبيعية يقتضي تأليف حكومة وحدة وطنية لأن من شأنها إزالة التشنج السياسي والتمهيد للتوافق. بذلك كتم لحود البدائل الأخرى.
وفي حصيلة الحوار لم يتوصل الرجلان إلى اتفاق على فكرة الرئيس التوافقي لأن كلاً منهما ينظر إليه على نحو مختلف عن الآخر.
وعلى طريقة الرئيس حسين العويني، قال كل من لحود وصفير ما لديه: هيك وهيك.