نقولا ناصيف
عبّرت المواقف الأخيرة للبطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير والنائب بطرس حرب عن حجم المأزق السياسي الناجم عن السجال الدستوري حول الانتخابات الرئاسية. والرجلان معنيان به: الأول بصفته المرجعية المارونية الأولى في استحقاق يتصل بالمنصب الأول للطائفة في الحكم، والآخر كأحد المرشحين البارزين له. وبالمقدار الذي تمثل مواقفهما فريقاً في الصراع السياسي هو قوى 14 آذار، أشارت مخاوفهما إلى الأخطار التي تحيق بالاستحقاق. وفي واقع الأمر يختصران المشكلة في المعادلة الآتية: تكريس نصاب الثلثين لالتئام مجلس النواب وانتخاب الرئيس الجديد يمكّن المعارضة من تعطيل الجلسة إذا لم يحظَ المرشح بتأييدها، وانعقاد الجلسة بالأكثرية المطلقة يثبّت بدوره سابقة انتخاب رئيس مستقبلاً بأصوات طائفة.
خلاصة ذلك إما وضع الرئاسة الأولى في مهب الريح والتسبّب بفراغ دستوري، وإمّا جعل المنصب الذي يمثل مشاركة الموارنة في الحكم أسير أكثرية في وسع طائفة السيطرة عليها. الأمر الذي برّر في الأيام الأخيرة غموضاً اكتنف موقف بكركي من نصاب جلسة الانتخاب، وبرّر كذلك موقف حرب بأنه لن يكون مرشحاً في انتخابات يكون النصاب مأزقها.
وتعكس المواقف الأخيرة للبطريرك ونائب البترون المخاوف الآتية:
1 ـــــــ تصاعد التجاذب القائم حول النصاب الدستوري على نحو يجعل منه ذريعة لمشكلة سياسية أكثر تعقيداً، هي ربط الانتخابات الرئاسية بالتوافق سلفاً على الرئيس الجديد للجمهورية. حتى إذا تعذّر أضحى النصاب سلاح التعطيل، والبديل من التوافق إحداث فراغ دستوري يفتح الباب على خيارات دستورية وسياسية خطيرة.
2 ــــــــ تمسّك كل من قوى 14 آذار والمعارضة بتفسيره الحصري للنصاب، وتالياً إصراره على إجراء الانتخاب وفق الطريقة التي يريدها هو للانتخاب، الامر الذي يجعل الرئاسة عرضة للمساومة والمقايضة السياسية.
3 ـــــــ ينتظر الرئيس المقبل دور أكبر من مشكلة الاتفاق على اسمه، هو استعادته موقع الرئاسة بكل مظاهر الاحترام والاحتكام إليه، ووضع حدّ للاجتهادات التي رافقت ممارسة الصلاحيات الدستورية في الأشهر الأخيرة. كذلك إعادة المؤسسات الدستورية الأخرى إلى حجمها الطبيعي وتنفيس انتفاخها وحصر دورها بالصلاحيات المنوطة بها، بالإضافة إلى تعويد السفراء التخاطب مجدداً مع رئيس الجمهورية وسلوك طريق قصر بعبدا.
باختصار، يتطلب هذا الدور إعادة الاعتبار إلى المكانة الشخصية لرئيس الجمهورية وإلى صلاحياته ووضع حدّ لتجاوزها. ولأن الرئيس ماروني، تصبح بكركي المعنية الأولى بردّ الاعتبار هذا.
4 ـــــــ مع أن البطريرك لم يعلن موقفاً صريحاً من النصاب الدستوري لجلسة الانتخاب، فإن حضّه النواب على عدم مقاطعتها يعبّر عن تمسّكه الضمني بنصاب الثلثين لانعقاد الجلسة. وهو مغزى إشارته تكراراً إلى ضوابط احترام المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس ومشاركة الجميع فيه. بذلك يكون قد وجّه رسالة مزدوجة: إلى الغالبية القريبة منه بالحاجة إلى أوسع اتفاق على انتخاب الرئيس بلا تهور، وإلى المعارضة بالحؤول دون افتعالها سلاح التعطيل.
5 ـــــــ تتعامل قوى 14 آذار بجدية مع إمكان لجوئها إلى خطوة غير مألوفة، هي جمع نوابها الـ70 خارج مجلس النواب إذا سُدّت في وجههم أبواب ساحة النجمة، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية بالأكثرية المطلقة التي تصبح نصاب الانعقاد ونصاب الفوز من الدورة الثانية للاقتراع، في معزل عن ردّ فعل المعارضة.
ويحظى هذا التصرّف بتفهّم كل أفرقاء قوى 14 آذار، وكذلك البطريرك، إذا بدا أن الخيار هو بين ألا تُجرى انتخابات رئاسية أو أن تُجرى انتخابات بـ70 صوتاً. ويدافع حرب عن الخيار الثاني ويراه حتمياً لتفادي فراغ دستوري، إلا أنه يلاحظ أن انتخاباً كهذا «لا يفتح أبواب الحل أمام الرئيس الجديد، بل من شأنه تأجيج الصراع السياسي بين طرفي النزاع لكون المعارضة لن تعترف بالرئيس المنتخب، عندئذ يمضي الأخير سني عهده وهو يدافع عن شرعية، يؤيدها فريق من اللبنانيين ويراها صحيحة، ويطعن بها الفريق الآخر ويقاطعها. يصبح رئيس الجمهورية وهو يبرّر شرعيته هذه رئيساً لفريق، وخصماً لآخر، ويفقد دوره عاجزاً عن تقديم مشروع حل وقيادة تسوية لا تقتصر على المشكلات الداخلية، بل تتطلب مواجهة المشكلات الخارجية أيضاً». مقتنع بنصاب الأكثرية المطلقة، لكنه يرى في تقليد اعتماد الثلثين حاجة مهمة أيضاً.
واستناداً إلى وجهة نظره هذه، لا يخفي حرب طموحاً شخصياً إلى رئاسة الجمهورية من غير أن يحبّذ فكرة «المرشح التوافقي»، إلا أنه ـــــــ وإن أيّد خطة قوى 14 آذار ـــــــ لن يكون مرشحاً للمنصب في ظل أزمة انقسام وطني حول النصاب. يشارك في جلسة النواب الـ70 ويقترع للمرشح الذي تتفق عليه هذه القوى. يقول أيضاً إنه ــــــ كمرشح طبيعي ــــــــ مصمم على خوض الاستحقاق إذا وجد الظروف تتيح له خوض منافسة انتخابية، لا أن يكون جزءاً من مأزق بدأ سياسياً وأضحى دستورياً ويكاد يغدو، في ظل التشنج المتزايد، أزمة وطنية.
ويضيف: «مهمة الرئيس الجديد تقديم ما عجز عنه الأطراف المتنازعون، وهو حل المشكلات الداخلية. ومن دون هذا الدور لا أجد مكاناً لي في انتخابات تجعل من النصاب سبب الأزمة».
وتعكس مقاربة حرب الدوافع التي جعلته يلتقي والبطريرك الماروني على دفع السجال في منحى آخر، بعيد من الاشتباك السياسي القائم حول النصاب الدستوري. ويقول إنه ناقش وصفير السبل الضرورية لإضفاء طابع مختلف على مسار الاستحقاق، هو تفادي الدخول في الجدل القائم حول النصاب، وتوجيه الانتباه إلى الجانب الحقيقي من المشكلة على نحو ما عبّر عنه البطريرك لدى عودته من الفاتيكان وتضمنه البيان الشهري الأخير لمجلس الأساقفة الموارنة، وهو ضرورة عدم مقاطعة جلسة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، واعتبار المشاركة فيها ـــ أياً يكن الموقف ـــ جزءاً من المسؤولية السياسية والدستورية تجنباً لفراغ خطير في المنصب.
الأمر الذي يحمل حرب على الاستشهاد بآلية الانتخاب التي يلحظها الدستور التركي. وخلافاً للفراغ في منصب الرئاسة اللبنانية في حال تعذّر انتخاب خلف للرئيس الحالي، فإن المادة 102 من الدستور التركي التي توجب انتخاب الرئيس بثلثي النواب في الدورتين الأوليين، تطلب للدورة الثالثة من الاقتراع الأكثرية المطلقة، حتى إذا أخفق المرشح في الحصول عليها، انتقل النواب إلى اقتراع رابع يقتصر على المرشحين اللذين حصلا على أكبر عدد من الأصوات للتنافس ويفوز أحدهما بالأكثرية المطلقة. وإذا أخفق أيضاً يصار إلى إجراء انتخابات نيابية عامة جديدة، في ضوئها ينتخب المجلس الجديد وفق الآلية هذه، الرئيس الجديد. على مرّ هذه المراحل يظل رئيس الدولة في منصبه إلى أن ينتخب البرلمان خلفاً له. وليست هذه حال الرئيس اللبناني الذي يشغر منصبه فور انتهاء ولايته الدستورية.