جان عزيز
لم يكن مستغرباً أن تترك زيارة البطريرك الماروني إلى قصر بعبدا يوم الجمعة الفائت هذا الصمت السياسي البليغ في مختلف الأوساط السياسية. حتى إن أحد المتابعين لها من المعنيين بتحضيرها وتنفيذها صنّف الامتناع عن التعليق على الحدث، بالوجوم الذي أحدثته في الوسطين الموالي كما المعارض، أو على الأقل لدى البعض من كليهما.
ما هي الأسباب الفعلية لهذا «اللا ترحيب» المكتوم؟ يجيب المعني بأنها كثيرة، بعضها في «الشخصي» وبعضها في «السياسي». والأهم أن بعض هذه الأسباب محصور في الداخل، وبعضها الأعمق يبلغ حركة الخارج المستجدّة في المقبل من الأيام.
لماذا امتعضت أوساط فريق 14 آذار من الزيارة؟ الإجابات واضحة ومفهومة. فبعد نحو سنتين على حملة «فلّ» وبعد أشهر على رسالة الإرباك التي انتقلت خفرة من بكركي إلى بعبدا، وبعد ما عدّه فريق السلطة إحكاماً للحصار السياسي والدبلوماسي على الرئيس الممدّدة ولايته... بعد كل النقاط المسجّلة في رصيد الفريق المناهض للحود، جاءت خطوة البطريرك الماروني لتبدِّل الكثير من الحسابات.
غير أن توقيت اللقاء في ذاته، كان أكثر عناصره صفعاً لمواقف الأكثرية: في اليوم التالي لصورة سعد الدين الحريري في الإليزيه، وعشيّة الشروع في آلية إصدار المحكمة الدولية عبر مجلس الأمن، صعد سيّد بكركي إلى بعبدا، وهو مَن قال عنه وليد جنبلاط: البطريرك جزء من فريقنا.
لكن في المقابل لماذا هذا الصمت المماثل في الفريق المعارض؟ «الوسيط المتابع» نفسه يقول: الأسباب أيضاً متعدّدة، وإن مخفيّة. فهناك امتعاض شخصي لدى البعض ممّن غيّب دوره، بحيث اقتصر ترتيب اللقاء على ضابط متقاعد كان ابتعد منذ فترة عن الظهور. حتى إن الدوائر المعنيّة في بعبدا لم تبلغ بوصول البطريرك إلاّ قبل دقائق من بلوغ سيارته مدخل القصر. وهناك امتعاض سياسي لدى البعض الآخر لأن أي تنسيق مسبق لم يحصل
حيالها.
لكن الأهم في رأي المعني، أن بعض المعارضة شعر بنكسة ما، لأن زيارة البطريرك قد تساهم في ضخ بعض الأوكسيجين السياسي لرئيس الجمهورية، بما يخفّف من وقوعه «تحت الرحمة» السياسية والإعلامية لهؤلاء، وبما يعطيه هامشاً من الحركة يتعدّى نطاق «تنسيقه» الكامل مع سلوك هذا البعض المعارض.
غير أن نوعاً آخر من «المخاوف» المشتركة بين أصحاب الصمت المرتاب من المعارضين والموالين، يظل الأكثر وزناً وثقلاً، وهو المرتبط بالتطورات الخارجية المستجدّة. فالخطوة جاءت في سياق سياسي عام، عنوانه بحث واشنطن عن مخارج لأزمات المنطقة المعنيّة بها، وخصوصاً في بغداد. والسياق نفسه يبدو وكأنه سيحكم التطورات البيروتية المقبلة، عبر امتداداته المرتقبة بين بغداد وطهران ودمشق. والأهم أن هذا السياق بات متجسّداً في الواقع اللبناني، بعنوان وحيد، هو الاستحقاق الرئاسي.
ما علاقة ذلك كله بلقاء بعبدا؟ بلغة مبسّطة، تقول المعادلة، إنه منذ احتدام المأزق اللبناني قبل عام ونيّف، راهن فريق السلطة على لحظة الاتصال الأميركي ــــــ الإيراني، لترجيح وجهة نظره في الداخل، وعلى استخدام هذه اللحظة لإقناع الثنائي الشيعي بالعودة إلى التحالف الرباعي، وبالتالي إمرار مرشح من هذا التحالف بالذات في رئاسة الجمهورية. وأبرز علم من أعلام هذا الرهان، كان وليد جنبلاط.
وفي المقابل، ومنذ استعار المأزق نفسه، راهن بعض المعارضة أيضاً على صورة رايس ــــــ متكي، لفرض تراجع في اندفاعة فريق 14 آذار، ولتعميم عودة الحرارة إلى خط واشنطن ــــــ طهران على الموقف السعودي خصوصاً، بما ينعكس إيجاباً على دمشق، وبالتالي صعوداً لأسهم هذا الفريق المعارض، يسمح له بإمرار «مرشحه» الرئاسي. وأبرز علم من أعلام هذا الحساب المقابل هو نبيه بري.
فجأةً، وعند استحقاق الحدث المرتقب والمنشود، طرأ جديد ما على محورين متوازيين، كلاهما خارجان عن الحسابين السابقين. صعد البطريرك إلى بعبدا بعد أسبوعين على عودته من روما. وتصاعد «الكلام اللبناني» في واشنطن، عن أن السياسية الأميركية في بيروت باتت أمام 3 خيارات: إمّا التفاهم مع سوريا، بصيغة ما، وإن كانت مغايرة لصيغتي 76 و90. وإمّا دفع الوضع إلى الحرب الأهلية، من النافذة الجنوبية أو من نافذة المحكمة الدولية، لاستحداث وضع عراقي ثانٍ يفتح ثغرة ممكنة للمأزق. وإمّا ثالثاً «الحكي» مع ميشال عون، لتبيان المخارج الأخرى الممكنة. علماً أن الكلام نفسه الدائر في العاصمة الأميركية، يجزم بأن الخيار الثالث هو الأقل كلفة والأكثر أولوية لجهة جسّ النبض والاستشراف قبل الاستنفاد.
التطوران الحاصلان أعادا رسم دور مسيحي في الاستحقاق المقبل، لم يكن حسابا بعض السلطة وبعض المعارضة، يلحظانه أو يرغبان فيه. هكذا بدا الصمت تعويضاً عن وجوم ذاتي، واستياء لا يمكن التعبير عنه.