أنطوان سعد
ليس من الصعب إيجاد مواد جديدة للكتابة عن البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير. والسبب ليس الأعوام السبعة والثمانين التي أتمها أمس، بقدر ما هو نوعية الحياة التي يعيشها منذ ما يزيد على خمسين سنة، أي منذ جاء الى البطريركية المارونية أميناً للسر في عهد البطريرك بولس المعوشي الذي سامه أسقفاً بعد خمسة أعوام، وعيّنه نائباً عاماً له. واذا كان الفيلسوف الدنماركي زورين كيركيغارد تساءل، يوماً، في كتابه «محطات في درب الحياة»: «ترى، من لديه ذكريات يخبرها أكثر: شاب ثلاثيني خاض عباب البحر، أم رجل سبعيني لم يترك قريته قط؟»، فكيف هي، إذاً، حال الرجل الثمانيني الذي لا يزال يمخر الجو ذهاباً وإياباً بحثاً عن خير أبناء شعبه؟
يفخر البطريرك صفير بأن أحد أجداده كان يكتب لقائد ثورة الفلاحين سنة 1856 طانيوس شاهين خطاباته ومراسلاته، وبذلك يكون فن صناعة الكلمة في الشأن الوطني حرفة متأصلة عنده. في أية حال، فإن إتقانه اللغتين العربية والفرنسية، هو ما فتح له أبواب الصرح البطريركي سنة 1956. ويروي الشاعر سعيد عقل أنه يوم اطلع في تلك الفترة على التصحيح الذي أجراه الخوري نصر الله صفير لكتاب أعدّه راهب ماروني يسوعي دمشقي من آل الياس، أُعجب بأسلوبه إلى حد دفعه إلى تزكية الخوري الشاب لدى البطريرك بولس المعوشي الذي كان قد سمع شهادات مماثلة عنه من المونسنيور مخايل رجي وبعض رجال السياسة الكسروانيين.
غير أن تمتع البطريرك صفير بموهبة تطويع اللغة، وبخاصة اللغة العربية، لم يكن دائماً عاملاً إيجابياً لمصلحته. صحيح أن العديد من القيادات الإسلامية السياسية والدينية أبلغت مراراً أن سلاسة لغته ساهمت كثيراً في عبور أفكاره إليهم، لكن الصحيح أيضاً أن مواقفه خلقت له إشكالات كثيرة، بدءاً من قوى الأمر الواقع في المنطقة الشرقية وبخاصة مع قائد «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع، وصولاً إلى رئيس الحكومة الانتقالية العماد ميشال عون، والرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، من غير إغفال الرئيس رفيق الحريري والوزير وليد جنبلاط ومعظم حلفاء سوريا. وقد تميّز في هذا الإطار رئيس المجلس النيابي نبيه بري، بشهادة أخصام له كانوا مقربين إليه، أنه صديق سوريا الوحيد من النافذين في عهد الهيمنة السورية الذي لم يوجه انتقاداً لاذعاً لسيد بكركي.
وقد بلغ البطريرك الماروني أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كان يعبر عن انزعاجه من عظاته الأسبوعية على الشكل الآتي: «كل أحد، كل أحد؟»، فيما كان موقف نائبه عبد الحليم خدام أكثر حدة: «ليلزم ديره ولا يتعاط السياسة، ما شأنه في السياسة أصلاً؟». أما الرئيس الهراوي فكان يشبّه مواقف سيد بكركي بالقصف المدفعي، وكان صباح كل أحد يعطي العظة صفة معينة: فإذا كان الانتقاد البطريركي غير مباشر وصف الهراوي العظة بقذيفة هاون، وإذا كان مباشراً فقذيفة دبابة. فيما كان يلجأ الرئيس رفيق الحريري للوزراء الموارنة لكي يكلفهم الرد على مواقف البطريرك الماروني «حتى لا يرتدي الموضوع طابعاً طائفياً»، على ما كان يقول مبرراً طلبه.
خلال سنوات حبريته، أرسى البطريرك صفير علاقات ثقة مع العديد من الشخصيات العالمية وفي مقدمها البابا يوحنا بولس الثاني والرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، وكانت له اتصالات ولقاءات مع العديد من الشخصيات الدولية. وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن علاقته بالولايات المتحدة شابها الحذر الشديد منذ مبادرة إدوارد والكر في تشرين 1988 القائمة على إعداد لائحة من خمسة أسماء مرشحين لرئاسة الجمهورية وتقديمها لسوريا عبر واشنطن. فلم تنجح هذه المبادرة بعدما تخلت عنها هذه الأخيرة تاركة البطريرك صفير يواجه إحراجات كثيرة. وما زاد من تردي العلاقة زيارة الولايات المتحدة في شتاء 2001 وإقفال كل الأبواب في وجه سيد بكركي بعدما قيل إن الرئيس رفيق الحريري استخدم نفوذه في سبيل ذلك تحت عنوان أنه لا يجوز أن يكون البطريرك الماروني أول شخصية شرق أوسطية تزور الرئيس الجديد جورج بوش. ولم تتحسن العلاقة في الشكل المقبول إلا إبان انتفاضة 14 آذار التي كان البطريرك صفير أثناءها في ضيافة الإدارة الأميركية. يومذاك سأل مقربون من سيد بكركي بول وولفويتز الذي كان يستعد للانتقال إلى البنك الدولي عما إذا كانت الولايات المتحدة ستثبت على موقفها المناصر لاستعادة سيادة لبنان وخروج الجيش السوري، فرد الأخير: «تتكلمون على الثبات وأنتم لديكم أفضل مثال على الثبات، البطريرك صفير وقد تجاوز الخامسة والثمانين وهو لا يتعب ولا يكلّ، خير نموذج للثبات، ويفترض بالجميع أن يتعلموا منه».
يمكن تقسيم سني بطريركية صفير على الشكل الآتي:
ـــ إنقاذ الوحدة الوطنية بين 1986 و1992
ـــ الصمود في وجه المحاولات السورية الرامية إلى تقويض مقومات الكيان اللبناني ومبرر وجوده بين 1992 و2000.
ـــ استرجاع السيادة اللبنانية بين 2000 و2005.
ـــ استرجاع التوازن بين اللبنانيين، وهي المهمة التي يضطلع بها منذ انسحاب الجيش السوري.
بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، حذّر البطريرك صفير جميع من زاروه بضرورة معالجة ذيول ما تخللها كيلا ترتد على اللبنانيين وتعوق عملية إعادة بناء الدولة على أسس سليمة. واختار أن يتراجع عن الأضواء والصفوف الأمامية معتبراً أن عودة حرية العمل السياسي إلى لبنان تفترض أن يتولى السياسيون المسيحيون مسؤولية التعاطي في المسائل المتعلقة بالشأن العام. وانحصرت عظاته حتى ربيع 2006 بالدفاع عن الفقراء والمهمشين والإشارة من وقت لآخر إلى مسألة عدم التوازن في الإدارة والمؤسسات العامة وفي قوانين الانتخاب. وعندما كان يسأل عن سبب تراجعه عن الواجهة كان يقول: «لإفساح المجال أمام الشباب». و«الشباب» في قاموس البطريرك هم القادة السياسيون المسيحيون.
بعد فترة سئل عن رأيه بالأداء السياسي لـ «الشباب»، فأجاب: «إبان الثورة الفرنسية، هرب النبلاء إلى بريطانيا. وعندما سقط نابليون عادوا ورجعوا لحركاتهم، فقال عنهم شاتوبريان: لم ينسوا شيئاً، لم يتعلموا شيئاً، ولم يفهموا شيئاً. وكذلك الشباب».
همّ البطريرك الماروني الأول اليوم هو توفير الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات الرئاسية عبر حضور العدد الأكبر من النواب وليس فقط الثلثين، لأن تجربة الفراغ الرئاسي سنة 1988 لا تزال بويلاتها ومصائبها وتداعياتها ماثلة أمام عينيه. اعتاد البطريرك صفير لدى كل استحقاق الاكتفاء بتحديد مواصفات الرئيس العتيد رافضاً الخوض في أسماء مرشحين. غير أن مصادر قريبة منه مطلعة على اتصالات تجري بينه وبين رئيس المجلس النيابي نبيه بري تشير إلى أنه قد يدخل بعض التعديل على استراتيجيته المعهودة حيال الاستحقاقات الرئاسية بالنظر إلى دقة المرحلة التي يجتازها لبنان حالياً.

قيادة مجلس المطارنة

يتميز البطريرك صفير بقيادة لينة لكن حازمة للكنيسة المارونية، على ما يقول بعض الأساقفة المقربين منه. ويتولى بنفسه إعداد تقرير شهري من ثلاث أو أربع صفحات، منذ سنة 1986 يقرأه في مستهل مجلس المطارنة لإطلاعه على أهم اللقاءات والاتصالات التي أجراها خلال الشهر المنصرم. ومن ثم يعدّ مشروع بيان عن المجلس يعرض على المطارنة للمناقشة والإقرار قبل أن يتلوه المونسنيور يوسف طوق الذي كان ينزعج الرئيس الهراوي كثيراً من طريقة قراءته قائلاً: «يخرج الكلام من فمه مثل الرصاص».

يومه

ـــ بين 5.45 و6.00 الاستيقاظ، ثم صلاة الصباح والقداس في كنيسة صغيرة مقابلة لجناحه الملاصق لقاعة الاستقبال الكبرى حيث يستقبل يومياً زواره. ثم طعام الفطور.
ـــ 8.00 أعمال روتينية إدارية، الاطلاع على البريد والعناوين العريضة للصحف.
ـــ 9.00ـــ12.30 استقبالاته في القاعة الكبرى.
ـــ 13.00 ـــ13.30 غداء ثم صلاة شكر وجيزة، فبعض المشي.
ـــ 13.30ـــ 16.00 استراحة على كرسي مريح وقراءة الصحف كاملة (عندما يعود سيد بكركي من السفر يطلع على كل الصحف الصادرة أثناء غيابه) وبعض الأعمال الإدارية.
ـــ 16.30 ـــ 18.30 اجتماعات إدارية مع الأساقفة ومع بعض السياسيين الذين يودون زيارة بكركي بعيداً عن الأضواء الإعلامية فقط لأن مديرية المخابرات في الجيش تطلع على أسماء الزوار من خلال الوحدة العسكرية المولجة حماية الصرح.
ـــ 18.30ـــ19.50 صلاة المساء، ثم طعام العشاء، فنحو نصف ساعة من المشي بين قناطر الصرح البطريركي الداخلية. في أمسيات الشتاء، يستعيض سيد بكركي عنها ببعض التمارين على السجادة الكهربائية.
ـــ 20.00ـــ 00.00 نشرة الأخبار، ثم عودة إلى جناحه للمطالعة وإعداد العظات والتقارير، والخلود إلى النوم قرابة منتصف الليل.




مؤلفاته

• «من ينابيع الإنجيل» عظات بالمناسبات الدينية، نشر أيام كان مطراناً.
• «وغابت وجوه» الرثاء الذي كان يعدّه ويلقيه باسم البطريرك المعوشي أو البطريرك خريش.
• عظة الأحد، خواطر روحية ومواقف وطنية، يصدر سنوياً منذ اعتلائه السدة البطريركية.
مؤلفات عنه:
• سيرته البطريركية في جزءين تحت عنوان «السادس والسبعون مار نصر الله بطرس صفير»، الجزء الثالث قيد الإعداد.
• «حارس الذاكرة»، للزميل جورج عرب، التقارير التي كان يعدها المطران نصر الله صفير بعد إنجازه المهمات التي كان يكلفه به البطريركان المعوشي وخريش، جزء ثان قيد الإعداد.
• المجلة البطريركية، لسان حال البطريركية المارونية، مجلة فصلية تنشر خطبه خارج إطار عظة الأحد، إضافة إلى المراسيم التي يصدرها.

رحلاته

إيطاليا، أكثر من عشرين مرة، فرنسا نحو عشر مرات، الولايات المتحدة أربع مرات، ألمانيا، بريطانيا، مصر، الكويت، الأردن، الجزائر، جنوب إفريقيا، البرازيل، الأرجنتين، الأورغواي، الاتحاد السوفياتي، المكسيك، كندا، وسوريا عندما كان نائباً بطريركياً، أستراليا، قبرص، نيجريا، النيجر، وغيرها من دول أفريقيا وجنوب أميركا.