إبراهيم الأمين
تقترب البلاد من مرحلة جديدة في ضوء المناقشات الجارية من حولنا. الأميركيون الذين يقتربون من قرار حاسم بشأن علاقتهم بإيران وسوريا باشروا التعامل مع ملف لبنان في هذا السياق برغم كل الصراخ عن عدم المساومة على ثورة الأرز وقادة السيادة وبقية الكلام السخيف. وحتى خطوة إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن الدولي صارت أقرب إلى سلاح قابل للاستخدام في المجال التفاوضي القائم والذي يقترب من مرحلة الحسم ربطاً بالتطورات غير القابلة للكبح في العراق، الذي يمثل حتى إشعار آخر أولوية الأولويات بالنسبة للجانب الأميركي.
ديفيد ولش حمل معه جرعة من المقويات التي تحتاج إليها قوى الأكثرية، والتي تخدم على مرحلتين: الأولى تخص مرحلة الاستعداد لإقرار المحكمة الدولية بعد بضعة أسابيع (يقول أعضاء في مجلس الأمن إنه ليس أمراً محتوماً إقرارها قبل نهاية الشهر برغم ضغوط كبيرة تمارَس لهذا الغرض) والثانية تخص مرحلة ما بعد المحكمة لناحية جدول الأعمال اللبناني. وهو في هذا المجال أكد على أمرين: إن الولايات المتحدة الأميركية لن تعترف بأي حكومة غير الحكومة القائمة حالياً. وإنها سوف تعترف بأي رئيس ينتخبه فريق 14 آذار، دون أن ينسى ولش تكرار الحديث عن التزام بلاده دعم هذه المجموعة وعدم التخلي عنها في أي تسوية أو صفقة قد تتم مع الآخرين في المنطقة.
إلا أن السياق العام للدفع الأميركي لا ينتج أموراً مختلفة عما هو متوقع. ثمة مفاوضات قائمة مع السوريين والإيرانيين بشأن الوضع في العراق، وهي مفاوضات تجري برغم وجود تيار قوي في الإدارة الاميركية معارض لها. لكنها مفاوضات المضطر، وبالتالي فإن التحكم منذ الآن بجدول أعمالها ومستوى فعاليتها أمر لا يدوم، وخصوصاً أن القيادة العسكرية الأميركية تدرك حجم الصعوبات التي تواجهها في العراق، بالإضافة إلى ما هو متوافر من معطيات لدى آخرين، بينهم جهات أوروبية، عن مرحلة جديدة من المواجهة مع قوات الاحتلال في العراق، وهي مرحلة لا تشبه البتّة ما يجري اليوم، وخصوصاً أن القاعدة السياسية التي رحبت بالأميركيين تقترب يوماً بعد يوم من مرحلة الانتفاضة بعدما تبيّن أن الاحتلال له وظيفة وحيدة وهي تدمير العراق.
الأمر الثاني يتعلق بالوضع الإسرائيلي والحاجة هناك إلى بعض الوقت قبل الشروع في حرب جديدة تضاف إلى حروبها المستمرة مع العرب. وهي تخص الجبهة الشمالية أي مع لبنان وسوريا. وثمة شعور قوي لدى في إسرائيل بأنه إضافة إلى الفشل الذي مُنيت به حملتها العسكرية، فإن ما بذل من جهود سياسية لتطويق المقاومة داخلياً لم يحقق ما هو مطلوب، بل على العكس فإن ما تعرفه إسرائيل يثير الذعر عندها برغم أن الحرب الأخيرة أظهرت أن قدراتها الاستخبارية في وضع صعب، وما يجري مع المناضل عزمي بشارة يعكس هذا الأمر أيضاً. كذلك هناك الاهتمام الإسرائيلي بما يجري على الجبهة الجنوبية معها، حيث يظهر الفلسطينيون استعدادات لخوض انتفاضة ثالثة بآليات نضالية أكثر تطوراً عما سبق. وكل ما يوفره حلفاء إسرائيل لها هو تدريب وتسليح وتمويل جماعات تكون جاهزة لخوض حرب أهلية بوجه قوى المقاومة، وهو أمر لا يملك قادة هذه الجماعات ما يؤكد نجاحه. وفي الحالتين ثمة حاجة واضحة لدى إسرائيل لأن تمارس ضغوطها على الولايات المتحدة بغية السير إما نحو مواجهة شاملة مع القوى الداعمة لتيارات المقاومة في لبنان وفلسطين، أي إيران وسوريا، وإما السير نحو تسوية ممكنة ومن النوع الذي يفتح باب الهدنة لوقت أطول.
وفي السياق، يمكن النظر إلى التحرك الأميركي وإلى مشروع إقرار المحكمة الدولية سريعاً في سياق الاستعداد لحل من اثنين: إما الضغط على سوريا وإيران وقوى حليفة لهما في لبنان وفلسطين بغية إجبارها على التنازل، وهو أمر مستبعد وفق الحسابات والمواقف القائمة، وإما التعامل مع هذه التطورات على أنها أوراق قابلة للاستخدام في التفاوض القائم. وفي هذه الحالة يأتي الحل من مكان آخر.
فهل يكون إقرار المحكمة هو المخرج الذي تحتاج إليه القوى الكبرى الداعمة لـ14 آذار كي تنتقل إلى مرحلة التسويات الكاملة؟
مشروعية السؤال تنطلق من كون الحسابات الواقعية لما يجري في لبنان ومن حولنا لا تشير الى تعاظم نفوذ الأميركيين ومن يعمل معهم. وأي مكابرة في هذا المجال لا تفيد في تعديل الوقائع، بما في ذلك التهديد بحروب أهلية وفتن طائفية ومذهبية وبتجويع اقتصادي وخلافه، لأن كل ما يهدد به اللبنانيون الآن قد جربوه سابقاً وليس قبل وقت طويل. ثم إن القوى الرافضة لهذا المشروع تملك من عناصر القوة ومن النفوذ والتأثير داخلياً وإقليمياً ما يتيح لها المبادرة متى وجدت نفسها مضطرة لذلك. وثمة مؤشرات واضحة على النتائج المرتقبة من أي مواجهة شاملة. وبالتالي فإن حديث 14 آذار عن مبادرة تستند إلى أن المحكمة صارت وراءنا، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أن الفريق الآخر مستعد لتسوية متكاملة لا لترتيبات مؤقتة. علماً بأن بين قيادات 14 آذار من يعتقد بأن الوضع لا يفرض عليها المبادرة وأن الفريق الآخر لا يقدم ما تحتاج إليه التسوية، مع العلم بأن وليد جنبلاط وسعد الحريري (ومن خلفهما قيادات بارزة في السعودية) يفترضون أن هناك فرصة للقيام بأمر ما. وهو جديد برز بعد التراجع الواضح في نفوذ الأمير بندر بن سلطان لمصلحة وزير الخارجية سعود الفيصل من جهة ورئيس المخابرات مقرن من جهة ثانية.
وإذا كان هناك بين قيادات المعارضة البارزة من يأخذ هذه الأمور بعين الاعتبار ولا يهمل احتمال لجوء القوى الكبرى عالمياً الى الدفع باتجاه تسوية، فإن هذه القيادات تخشى أن يبالغ أركان 14 آذار في تقدير حجم ومدى فعالية المقويات التي حملها معه ولش الى لبنان، لأن منطق التسوية الذي تعمل عليه الولايات المتحدة في المنطقة يجعل الحديث عن زيارة ولش أقرب الى الزيارة الوداعية منها الى الزيارة الابتدائية. وهو الأمر الذي يضيف تعقيداً جديداً، وسط تراجع جدي في الجهود العربية القائمة الآن بشأن لبنان، وهو ما دفع بالأمين العام للجامعة عمرو موسى الى القول إن هذه المرحلة تحتاج الى التبصر في الخطوات الأميركية قبل التوجه مجدداً الى الوحل اللبناني. وهذا الموقف يعني أولاً ربط أي مبادرة عربية بآفاق الحوار الأميركي مع سوريا وإيران، وثانياً ربط المبادرة بمشروع حل يأخذ بعين الاعتبار أن إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن يعني انتصاراً لجهات عامة. وإذا كانت أميركا قادرة على استثمار هذا الملف في حوارها مع سوريا وإيران فهذا لا يعني أن بمقدور قوى 14 آذار التعامل مع إقرار المحكمة على أنه انتصار قابل للاستثمار في ملفات أخرى ولا سيما الملف الرئاسي وهو بيت القصيد!