strong>عفيف دياب ــ علي يزبك
  • بلدة لبنانية مصدر عيشها وخدماتها من سوريا

    لم تكن الرحلة إلى قرية الطفيل اللبنانية (قضاء بعلبك) بالأمر اليسير والآمن. قاصد القرية المتاخمة للحدود مع سوريا يمر بأودية وتلال وهضاب وعرة وجرداء في سلسلة جبال لبنان الشرقية. ساعتين من «الزمن» استلزم اجتياز 25 كلم فقط لا غير بسيارة دفع رباعي للوصول الى القرية اللبنانية التي لا ترتبط بالوطن الأم بطريق معبدة... فأهلها منذ أن صنعوا «قريتهم» يقصدون دمشق ومنها الى البقاع

    تبدأ الرحلة الى الطفيل (1700 م.) مع ساعات الصباح الأولى من بلدة بريتال مروراً بالنبي سباط وصولاً الى قرية حام. ويبدأ «شد الأعصاب» بعد اجتياز حاجز للجيش اللبناني المكلّف بضبط التهريب وأخواته في «باب» وادٍ وعر جداً... ولكن لا مجال للتردد أو التطلع نحو الخلف فالرحلة بدأت وقد تكون لمرة وحيدة في العمر.
    تمضي أكثر من ساعتين وأنت «تكافح» داخل منحدرات صخرية وتصعد تلالاً وتجتاز «خنادق» وترمم بعضها حتى تستطيع العبور بـ«أمان»، الى ان تنجح «بقايا» أشجار «اللزاب» و«الثلوج» ومشاهد الرعيان في «القضاء» على التوتر و«القلق».
    قبل الوصول الى الطفيل التي تزنّرها بساتين الكرز والمشمش والسواتر الترابية، تستوقفك «سيدات» يعتمرن الكوفية وهن يقلعن «العكوب» النبتة الشوكية التي تباع في أسواق دمشق الأقرب الى أهالي الطفيل من بعلبك أو شتورا، وبالطبع من بيروت عاصمة «وطنهم» لبنان! تستوقفك السيدة فاطمة السيد (40 عاماً) وتبادرك بسؤال بلهجة سورية «شو جايين من لبنان؟»، فتعتقد لوهلة أنك ضللت الطريق ودخلت الى الأراضي السورية، ولكن فاطمة تضحك من استفسارك وتؤكد لك أنك في لبنان و«نحن من لبنان» و«بدك شي ساعة حتى توصل على الطفيل».
    في الطفيل يتحدث الجميع وكأنهم في «دولة» أخرى وليسوا في وطنهم. فحين تصل ساحة القرية يسألك «العم» أبو عبدو مرعي (70 عاماً): «شو كيف لبنان»؟ فيما يبادرك إبراهيم دقو (68 عاماً) بالتهنئة على سلامة وصولك!
    مختار القرية محمد فوزي دقو «راح مبارح على لبنان، عندو معاملات عند الدولة، وبدو شي كام يوم حتى يرجع»، يقول ابنه جمال المدرس في مدرسة الطفيل الابتدائية. وتضم هذه المدرسة في غرفها 40 تلميذاً وتلميذة، وهي من المعالم الرسمية اللبنانية الوحيدةيقول مدير المدرسة محمود الشوم إن أفراد الهيئة التعليمية عددهم خمسة فقط، اثنان في الملاك و3 يعملون بالتعاقد (جميعهم يقطنون في عسال الورد السورية)، ويؤكد أن التواصل مع وزارة التربية يتم مرة واحدة في العام الدراسي.
    تستقبل المدارس السورية في القرى المجاورة كل تلامذة الطفيل الذين يريدون متابعة تحصيلهم العلمي. فمعظم أبناء البلدة يتلقّون تعليمهم المتوسط والثانوي والجامعي في سوريا التي لا تبعد عنهم سوى بضعة أمتار، والتواصل معها يومي وتوجد «وحدة حال».
    يؤكد مدير المدرسة محمود الشوم أن علاقة أهالي الطفيل مع سوريا لم تتأثر بانسحاب الأخيرة من لبنان ومن «الطفيل»، فـ«نحن نعبر يومياً الحدود من خلال تصاريح عبور خاصة بنا صادرة من اللجنة الأمنية السورية ــ اللبنانية المشتركة، ولم نشعر يوماً أننا نعبر من دولة الى أخرى، فلا يمكن أحداً أن يميز بين أهالي الطفيل اللبنانية وأهلهم السوريين في عسال الورد أو رنكوس أو حوش العرب، وما ينطبق على أهالي هذه القرى ينطبق علينا، فمصدر معيشتنا والخدمات من سوريا، ولم نرَ من الدولة اللبنانية خدمات تذكر، مطلبنا الوحيد منذ أن نال لبنان استقلاله هو الطريق، والطريق، ومن ثم الطريق الذي يوصلنا بالوطن، فحين نريد الوصول الى البقاع علينا اجتياز 145 كلم عبر سوريا، فيما المسافة من الطفيل الى بعلبك لا تتعدى 35 كلم، ولا ندري لماذا لم تتحرك الدولة بعد، قبل 3 سنوات علمنا أنه لُزّم الطريق، ووعدنا الرئيس نجيب ميقاتي يوم كان وزيراً للأشغال بأنه سيعمل على شق طريق الطفيل من لبنان وتعبيدها... ونحن ننتظر».
    عند مدخل الطفيل الشرقي ــ الجنوبي (مدخلها السوري) حاجز للاستخبارات السورية وشرطة الحدود (الهجانة). يقول أحد عناصر الحاجز بعدما طلب منا عدم اجتياز شريط أسود هو «خط» الحدود مع لبنان، «إن سوريا تقدم معاملة خاصة لأهالي الطفيل وتوفر لهم كل الخدمات، وهم يعبرون بشكل طبيعي بين البلدين».
    كهرباء الطفيل ومياهها وهاتفها من سوريا. فالتيار الكهربائي وصل الى القرية سنة 1997 بعدما اتفقت كهرباء لبنان مع كهرباء سوريا على تزويد الطفيل الكهرباء (صيانة الشبكة على نفقة الأهالي، والجباية لبنانية)، فيما لم تنجح الدولة اللبنانية في توفير «الهاتف» فتم وصل البلدة بشبكة الهاتف السورية ولكن «لم تصل الحرارة بعد» جراء الخلاف السياسي بين لبنان وسوريا و«عجز» وزارة الاتصالات اللبنانية عن توفير البديل. فالأهالي لا يمكنهم التحدث هاتفياً مع «وطنهم» لأن التعرفة تصبح «دولية»! لذلك استُعين بالهواتف الخلوية السورية.
    ويقول معلم المدرسة إبراهيم دقو إن السكان يعتمدون على مياه الشفه السورية التي تنقلها «صهاريج»، مقابل 15 ألف ليرة لبنانية لـ«النقلة الواحدة»، لأن «مية عين الضيعة ملوثة لا تصلح للشرب»، ويؤكد أن الأهالي ينتظرون مبادرة وزارة الطاقة والمياه اللبنانية إلى تزويد الطفيل المياه من بئر ارتوازية حُفرت قبل سنوات.
    تردّي الوضع الخدماتي في الطفيل أجبر عدداً كبيراً من الأهالي على «النزوح» الى سوريا أو الى الداخل اللبناني. ويقول مدير المدرسة، وهو يقطن في بلدة عسال الورد السورية، إن معظم الأهالي يقطنون في سوريا، وقلة منهم في «لبنان» و«لا حياة هنا»، فيما يشير أحمد عمر الى ان «الدولة اللبنانية لا تزورنا إلا في الانتخابات، والله يكتّر خير سوريا، ونحن هون لا نعترف بحكومة لبنان لأنها غير شرعية ولم تشقّ لنا الطريق الى الطفيل».
    حوالى 2500 نسمة عدد أهالي الطفيل، وتحتلّ قضية «القيود» المكتومة أهمية قصوى عندهم. فمعظم أطفال الطفيل اليوم «مكتومو القيد». ويوضح مدير المدرسة محمود الشوم أن «صعوبة» التواصل مع لبنان ألزم الأهالي بإهمال تسجيل أولادهم في الدوائر الرسمية، فيما البعض فضّل سابقاً الاستحصال على الجنسية السورية. ويقول محمد حسين عمر (75 عاماً) الذي لم يزر «لبنان» منذ 25 سنة إنه لبناني وشقيقه سوري، ولم يستطع الحصول على هويات لبنانية لثلاثة من أولاده الستة، ويأمل مدير المدرسة محمود الشوم أن تولي وزارة الداخلية اللبنانية قضية «المكتومين» في الطفيل أهمية استثنائية، ويضيف «يكفي أنه لا مستوصف هنا أو خدمات أخرى، أضعف الإيمان أن تمنح الدولة مواطنيها هوية وطنهم»!
    غياب الطبابة في الطفيل اللبنانية تعوّضه عسال الورد السورية، إذ يقول عدد كبير من الأهالي إن أقرب مستوصف طبي هو في سوريا التي تعاملهم كمواطنين سوريين من حيث الطبابة والتعليم. ولأن وحدة «المسار والمصير» بين الطفيل وسوريا مستمرة حتى اليوم، أطلق الأهالي على ساحة قريتهم اسم ساحة «الشهداء» اللبنانيين والسوريين الذين سقطوا في مواجهة العدو الاسرائيلي، مع رسم للعلمين اللبناني والسوري لتأكيد العلاقة الوطيدة التي تجمع الأهالي مع سوريا. فاللهجة المحكية في الطفيل سورية، ولوحات جراراتهم الزراعية (وسيلة النقل الاستراتيجية) سورية.. وعملتهم سورية، وما في حوانيتهم ووجدانهم «صنع في سوريا» لا في لبنان.




    أراض زراعية مالكها مصرف لبنان ويوضح مدير المدرسة أن عدد الموظفين في مؤسسات الدولة اللبنانية لا يتجاوز 25، أغلبيتهم في الجيش والدرك وواحد في الأمن العام. وهناك 10 مهندسين تخرجوا من الجامعات السورية، و3 أطباء، ومحاميان يزاولان المهنة في سوريا. وبين سنة وأخرى تزور دورية من الدرك البلدة، ويأمل الأهالي أن تضع الدولة مخفراً دائماً للدرك في بلدتهم.
    تبلغ مساحة الطفيل 54 ألف دونم تعود ملكيتها اليوم الى مصرف لبنان، إذ لا وجود لأملاك خاصة في البلدة سوى المنازل التي شيدها الأهالي. ويقول مدير المدرسة الابتدائية إن الطفيل كانت سابقاً إقطاعية لعاصم آغا سويدان الذي باعها الى جودت الفلا الذي أقام مقالع رخام ومن ثم آلت الى بنك مبكو الذي أفلس لاحقاً وأصبحت الطفيل ملكاً لمصرف لبنان.
    وتتميز الطفيل بأحجار أوتكس النادرة، إضافة الى حجر الرخام، وهي من ضمن المخطط التوجيهي للمقالع والكسارات منذ عام 2003. ويقول الأهالي إن قلعة بعلبك شُيّدت من حجارة جبالهم.
    يبدي بعض أهالي الطفيل عتباً كبيراً على القيادات السياسية اللبنانية، فيقول أبو عمر دقو «سوريا هي أم العروبة، وعلى قيادات لبنان أن يأتوا الى الطفيل ليعرفوا معنى العلاقة بسوريا، فهم يطلقون التصريحات ضد سوريا ويتجاهلون أن لهم إخوة في الوطن تشكل سوريا بابهم الوحيد للحياة والمعيشة، فتصريحاتهم تزعجنا كثيراً.. واللي قاعد ببيروت بيحكي متل ما بدو».