نقولا ناصيف
على رغم الفروق في الموقع والدور والاهتمام بين الزائرين الأميركي والروسي، مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى دافيد ولش ونائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي ألكسندر تورشن، فإن خلاصة المواقف التي عبّرا عنها، أمس، أبرزت تناقضاً لافتاً حيال مقاربة كل منهما انتخابات الرئاسة اللبنانية. وعبّرت عن هذا التناقض ملاحظات منها:
1 ـــ استمرار ولش في مقاطعة الرئيس إميل لحود وتجاهل وجوده في المعادلة الداخلية، في حين زاره تورشن ولبّى دعوته إلى الغداء. وأظهر المسؤول الروسي كذلك أن بلاده لا تجاري الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في عدم الاعتراف بالشرعية الدستورية للرئيس اللبناني. وكان نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر سلطانوف قد زار بيروت في 17 نيسان الفائت والتقى لحود في سياق ما يبدو موازنة روسية في علاقاتها مع الأفرقاء اللبنانيين. بذلك تبدو موسكو أقرب في العلاقة مع المسؤولين اللبنانيين إلى الموقف العربي منها إلى الموقف الغربي. وهو مؤشر إلى تفاديها الانخراط طرفاً في النزاع اللبناني ـــــ اللبناني وفي اشتباك الشرعيات اللبنانية، وفي النزاع اللبناني ـــــ السوري، ولا تجري أيضاً تقويماً للقيادات انطلاقاً من حدّة عداء هذه لدمشق، وقد أضحى أفرقاء دوليون جزءاً من هذا المثلث.
ومع أن روسيا امتنعت عن التصويت تأييداً للقرار 1559، في 2 أيلول 2004، والذي تناول شقين رئيسيين هما: مواصفات إجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية وانسحاب الجيش السوري من كل لبنان، فإنها أيّدت البيانات الرئاسية الصادرة دورياً عن مجلس الأمن حيال التقارير المتعلقة بمراحل تنفيذ القرار. وانضمت في المقابل إلى تأييد كل القرارات التي كان مجلس الأمن قد أصدرها في التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ثم في إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي، بدءاً من القرار 1595 في 7 نيسان 2005، مروراً بالقرارات 1636 و1644 و1686.
2 ـــــ تبدو المصادفة وحدها التي جمعت بين زيارتي ولش وتورشن لبيروت، فيما لم يتأكد بعد حجم نجاح المفاوضات التي أجرتها الوزيرة كوندوليزا رايس في موسكو حيال تخفيف لهجة التشنج بين العاصمتين الكبريين. وفي تقويم جهات لبنانية واسعة الاطلاع أن أهمية ما صدر في الساعات المنصرمة يحصر الانتباه بمواقف ولش. ذلك أن فاعلية كل من الرجلين تختلف باختلاف انتسابه إلى المؤسسة الدستورية التي يمثلها، ومركز القرار فيها. وهو أمر يبيّن أيضاً مدى تأثيره في الملف اللبناني. ناهيك بأن التأثير الروسي في لبنان لا يتعدّى كونه هامشياً، ولا تتنامى وتيرته إلا كلما تفاقم اشتباك المصالح الأميركية ـــــ الروسية في مكان آخر من العالم. . تبعاً لذلك، على وفرة التناقض بين ما ذكره تورشن عن التدخل الأجنبي في لبنان والموقف من الانتخابات الرئاسية والمحكمة الدولية المشروطة بعدم التسييس، وبين ما أسهب ولش في الكلام عنه في المواضيع نفسها، يبدو واضحاً أن واشنطن قرّرت أخيراً الدخول مباشرة على خط الاستحقاق.
3 ــــــ عكست سلسلة المواقف التي أدلى بها الديبلوماسي الأميركي رغبة إدارته في بعث الروح في القرار 1559. فكان أن استعاد الشروط التي أوردها القرار لإجراء الاستحقاق الرئاسي عام 2004، وخصوصاً في تركيزه على القواعد الرئيسية الثلاث التي قال بها القرار 1559 لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، ووفق أحكام الدستور اللبناني، وبعيداً من أي تدخّل خارجي. وهكذا ولج ولش إلى هذا الملف من خلال النصاب الدستوري لجلسة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية. واستناداً إلى مطّلعين على جملة الأفكار التي أثارها الزائر الأميركي، اهتم بتأكيد بضعة معطيات تتصل بالموقف الأميركي من الاستحقاق الرئاسي، في حمأة التجاذب الداخلي اللبناني:
أولها، أن واشنطن ليست في وارد تكرار الخطأ الذي ارتكبته عام 1988 عندما دخلت في تفاوض مباشر مع دمشق على إجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية، آل إلى تورّطها في لعبة الأسماء، فأفضى دورها هذا إلى مزيد من التعقيد الذي قاد بدوره لهذا السبب، وأسباب أخرى أيضاً، إلى فراغ دستوري.
وتحمل هذه الاستعادة شخصية لبنانية بارزة تسنّى لها قبل سنوات، أن تصغي إلى صاحب مسعى استحقاق 1988 وهو مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ريتشارد مورفي، سلف ولش، يصحّح ما اعتبره خطأً في تفسير نتائج زيارته لدمشق في 18 أيلول 1988، وعودته منها بعد ساعات طويلة من التفاوض الشاق والمنهك مع الرئيس حافظ الأسد، إلى بيروت حاملاً اسم النائب السابق مخايل ضاهر مرشحاً وحيداً للرئاسة. نفى مورفي للشخصية اللبنانية البارزة أن يكون ربط بين عدم انتخاب ضاهر والفوضى، وبين قوله «إما مخايل ضاهر أو الفوضى»، وأوضح أن التشنّج الذي أحاط بتصرّفات المسؤولين والقيادات، أدى إلى سوء تفسير لموقفه على طريقة «الأخطاء الشائعة». وقال للشخصية اللبنانية البارزة إنه رمى إلى القول إن تفويت اللبنانيين على أنفسهم فرصة انتخاب رئيس سيدفع بهم إلى الفوضى. وهذا ما حصل. حينذاك كان الاشتباك اللبناني ـــــ اللبناني، والمسيحي ـــــ السوري في ذروته.
وفي واقع الأمر، فإن رئيس المجلس نبيه بري ذكّر ولش، أمس، ببعض ما كان قد رافق استحقاق 1988، في معرض شرحه له الآلية الدستورية لانتخاب الرئيس اللبناني، فعزا إخفاق اللبنانيين في انتخاب رئيس جديد إلى تعثر شرطين كانا ضروريين لإمراره، أحدهما هو التئام جلسة 18 آب 1988 بنصاب الثلثين الذي حال دونه الأفرقاء المسيحيون بمنعهم نواباً من الوصول إلى المجلس وتعطيلهم اكتمال نصاب الثلثين، والآخر عدم اتفاقهم على «مرشح توافقي».
ثانيها، تأكيد ولش أن المهمة الفعلية لزيارته بيروت ليست التدخّل المباشر في الانتخابات الرئاسية والخوض في تفاصيلها، وإنما تأكيده لحكومة الغالبية وقوى 14 آذار أن حواراً أميركياً ـــــ إيرانياً وأميركياً ـــــ سورياً لا يبدّد موقف إدارته من أن المشكلة ليست بين هذه وكل من طهران ودمشق، بل بينهما والمجتمع الدولي. تالياً، فإن اهتمام واشنطن بالاستحقاق الرئاسي ينبغي ألّا يؤخذ على أنه تدخّل في الشأن اللبناني، كذلك أن يأخذ في الاعتبار المصالح الأميركية التي ترى لبنان سيداً ومستقلاً. مغزى ذلك أن إدارته ليست في وارد تكرار تجربة عام 1988 بالخوض في الأسماء أو الاتفاق مع سوريا على إدارة انتخابات الرئاسة اللبنانية. وبسبب ذلك تتمسّك واشنطن بتأييد الغالبية النيابية إذ تعتبرها منبثقة من انتخابات حرة وديموقراطية، وتدعم توجّهاتها في تقرير مستقبل لبنان.
ثالثها، تميل واشنطن إلى رئيس توافقي للبنان من باب احترام انتخابات 2007 المواصفات التي تلحّ عليها واشنطن، وتدخل في صلب مقومات الدستور اللبناني، وثبّتها القرار 1559 تفادياً لتكرار تجربة الرئيس إميل لحود في رئاسة الجمهورية. لكن ذلك يشير أيضاً إلى تأييد واشنطن رئيساً توافقياً يقود لبنان إلى استقراره الداخلي وإلى مسار الديموقراطية والحرية، ويحترم قرارات الشرعية الدولية بدءاً من القرار 1559 وصولاً إلى القرار 1701، ويعزز مضيّ المحكمة الدولية في عملها.
باختصار، يريد ولش رئيساً لا يعيد لبنان إلى القفص السوري.