جان عزيز
لم يتكلم مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، دايفيد ولش، كثيراً في لقاءاته اللبنانية المكثفة، طيلة اليومين الماضيين. لكنّ ذلك لم يمنع دفاتر الوفد المرافق له من الامتلاء أكثر من مرة، على وقع الإجابات المطوّلة عن أسئلته المطروحة. متابعون لمحطات الزيارة المختلفة، وزّعوها فعلياً بين كفتين: كل اللقاءات المعقودة بين ولش والمسؤولين اللبنانيين في كفة، ولقاءاه مع البطريرك الماروني وميشال عون في كفة ثانية.
والمتابعون أنفسهم حدّدوا الرسائل السياسية لمساعد كوندوليزا رايس، حيال شخصيات الكفة الأولى، باثنتين: تطمين وتنبيه. التطمين الى ما بات معروفاً عن الاتصالات الأميركية في شأن الوضع العراقي، وخصوصاً مع سوريا وإيران. «نو ترايد أوف»، أو لا مقايضة، تكررت أكثر من مرة بحزم وثقة حاسمين خلال جميع لقاءات الكفة الأولى. مع أن التساؤلات كانت خجولة حيال المعادلة الآتية: لا تشكيك في النيات الأميركية، لكن ماذا عن النيات السورية والإيرانية حيال هذه الاتصالات؟ ماذا لو ذهبت واشنطن الى «ما بعد شرم الشيخ» بقرار حصر التفاوض في الملف العراقي، وجاءت دمشق وطهران بكامل أجندتيهما؟ هل تكون الإدارة الأميركية الحالية جاهزة لإقفال الباب، والعودة إلى خيارات التصعيد؟ أم تعتمد أساليب أخرى؟.
لم يكن كلام ولش في هذه المسألة شافياً، ولم يدخل في التفاصيل. فيما لم تكفِ «المبدئيات» لتبديد التساؤل والحق في الاستشراف.
يبقى التنبيه بعد التطمين: صحيح أن واشنطن حسمت قرارها لجهة إصدار المحكمة الدولية عبر مجلس الأمن، وتحت منطوق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والمسألة باتت في حكم المنجزة في خلال أسبوعين، لتقدم في الشكل إنجازاً إلى الرئاسة الأميركية لهذا المجلس، قبل مداولتها في حزيران المقبل، لكنّ ظروفاً واعتبارات عدة ستحول دون تحرير المسودة المقرّة من بنود وعوامل تعيد ربط القرار بالمؤسسات الدستورية اللبنانية، وتحديداً بالحكومة والمجلس النيابي. وبالتالي كان التنبيه واضحاً: بعد قرار مجلس الأمن، لا بد من معالجة الوضع الحكومي، بما يجعل قرار المحكمة سالكاً، ويمهّد في الوقت نفسه لمقاربة الاستحقاق الرئاسي.
ماذا عن هذا الاستحقاق؟ عودة الى المبدئيات نفسها: ضرورة إجرائه في الوقت المحدّد دستورياً، وفق آليات هذا الدستور الراعية له.
في الكفة الأخرى من لقاءات ولش، كان الكلام، أو اللا كلام، أكثر تعبيراً ودلالة. ففي اجتماع عوكر مع ميشال عون، بدا المسؤول الأميركي أقل امتلاكاً لتصوّر كامل ومشروع واضح لتطورات الوضع اللبناني المقبلة. وعلى عكس ما ظهّره الإعلام في المحطات المختلفة للزيارة، كانت الدقائق الستون من لقاء المتساجلين بعنف قبل أسبوعين، حافلة باستفسارات أميركية وقراءات عونية. منذ اللحظة الأولى للاجتماع حرص ولش على تخطي مواقفه الانتقادية السابقة، والبدء من جديد. كما حرص على إعطاء شكل اللقاء طابعاً مناقضاً لما سوّقه بعض السلطة عبر سياسييها وإعلامها. عون هو الضيف الوحيد الذي طلب المسؤول الأميركي لقاءه من خارج الرسميين، على عكس الآخرين، والوحيد الذي وجّه اليه «الدعوة للّقاء في منزله».
في المضمون مثّل الاجتماع أكثر من «إعادة اتصال»، وأشمل من «تبادل وجهات النظر». فسأل المسؤول الأميركي عن التصور المقابل لما بعد المحكمة وكيفية سيرها وتسهيل قيامها، وتحقيق مهمتها. كرر عون موقفه المعلن: مع المحكمة بلا شروط ومن دون أي تحفظ. لم يكف الجواب، عادت الأسئلة، وكأنّ قرار مجلس الأمن المقبل، لن يكون ذاتي الحركة والتحقق. استمرت الأسئلة، فأفاض عون في شرح وجهة نظره، عن المأزق والمخارج، على المستويات. استمع ولش، دوّن مساعدوه حرفياً. وانتهت جلسة الشاي، لا القهوة، كما طلب الجنرال. يبقى في الكفة الثانية لقاء بكركي. في الصرح بدأ ولش حديثه، وكأنه يستأنف اتصاله الهاتفي بالبطريرك قبل أسابيع. أما المحور، فحرص المسؤول الأميركي على «المسيحيين في لبنان». مع استنتاج مباشر: وحده الاستحقاق الرئاسي يمثّل فرصة لتحسين المشاركة المسيحية في السلطة والنظام. «الموقع مسيحي»، وهذا يفترض من المسيحيين اهتماماً خاصاً ودراية وحرصاً على حصول الانتخابات، وحسن اختيار المنتخب.
مع الإشارة الى أن أي خطوة أخرى معاكسة قد تنعكس سلباً على المسيحيين، وخصوصاً أي تصرف أُحادي الجانب من الرئيس إميل لحود، أو أي تغطية، أو حتى صمت، مسيحيين حيال مسألة كهذه.
فالمعلومات متوافرة بغزارة عن إنجاز مرسوم رئاسي، يجتهد في إطار «نظرية الظروف الاستثنائية»، ويقرر اعتبار الحكومة الحالية مستقيلة. كما المعلومات متوالية عن جهوزية مرسوم آخر بتكليف وزير سابق رئاسة الحكومة، ثم تأليف أخرى جديدة، تكون باكورة أعمالها، حل المجلس النيابي بطلب من رئيس الجمهورية، بعد انتهاء العقد العادي في 31 أيار، استناداً الى المادة 65 من الدستور. وهو ما يُدخل البلاد، وفق الرأي الأميركي، في حالة فوضى (كابوس) أسوأ من التي حذّر منها في أيلول 88، ويعرّض المسيحيين لأخطر مما تعرّضوا له بعد ذلك التحذير.
هكذا بدأ كلام ولش القليل كافياً لاستخلاص الرسائل: المحكمة آتية، لكنها غير كافية. معالجة الوضع الحكومي ضرورية، لكن كيف. عون ممّر إجباري للحل، لكن بأي ثمن. احذروا مماشاة لحود... وإلاّ.