إبراهيم الأمين
يمضي لبنان سريعاً نحو المواجهة الأشمل. فريق 14 آذار يواجه آخر مهمة جمع الأوراق قبل المنازلة الكبرى. الأميركيون يتصرفون على أن بيروت هي الساحة الوحيدة في المنطقة القابلة للاستثمار الآن. في فلسطين تحوّل التوازن إلى مشكلة تهدّد كل مشروع المبادرة الأميركية ــــــ العربية، وفي العراق ثمة تطورات لا يستطيع الأميركيون تحمّل نتائجها السياسية ولو كانت إدارتهم قليلة الاكتراث بالعدد المتزايد للقتلى من جنودهم. وفي منطقة الخليج، يواجه الأميركيون ــــــ ومعهم الحلفاء ــــــ بقلق تحوّل إيران إلى دولة نووية، أو شنّ الولايات المتحدة حرباً عليها. وحتى في إسرائيل ليس هناك حكم قوي قادر على مساعدة إدارة جورج بوش، فلا الحكومة قادرة على اتخاذ قرار جديد بالحرب بعد هزيمة لبنان، ولا هي قادرة على المبادرة باتجاه تسوية جدية مع العرب. لكن في لبنان، يقوم توازن دقيق بين فريقين يخضعان تلقائياً لسقوف التوتر العالي القائم في المنطقة. ولا يشعر الدبلوماسيون الأميركيون براحة أكثر من هذه المدينة التي تستقبلهم بهدوء عام ولو رافق ذلك صخب سياسي.
وإذ حرص ديفيد ولش على إبلاغ الجميع بأن إقرار المحكمة الدولية من شأنه فتح الباب أمام مرحلة جديدة، فإن قلقه وقلق أوساط أخرى، من بينها الفرنسيون والفاتيكان وقوى بارزة في 14 آذار، من تعميم الانقسام من خلال قيام حكومة ثانية، كل ذلك أعاد إلى الواجهة الحديث عن مبادرات ما بعد إقرار المحكمة الدولية، وثمة الكثير من الكلام في هذا المجال لكنه غير موثق حسبما يقول مرجع حزبي معني بكل هذه الاتصالات.
من هذه الأمور، أن البطريرك الماروني نصر الله صفير الذي حذر من قيام حكومة ثانية تشق الصف المسيحي بقوة وتفتح البلد على انقسامات كبيرة، يسعى في الوقت نفسه إلى المساعدة على إيجاد مخرج. وهو يعتقد بأن لدى قوى 14 آذار القدرة على التصرف براحة أكبر بعد إقرار المحكمة، وأن تبادر من تلقاء نفسها إلى طرح تأليف حكومة جديدة، أو أن تتعامل بمرونة وإيجابية مع طرح تأليف حكومة جديدة، تكون مسؤوليتها الإشراف على إتمام الاستحقاق الرئاسي في موعده وبطريقة لا تؤدي إلى أي انقسام. لكن لم يؤكد أحد أن صفير استخدم عبارة «الحكومة الحيادية»، علماً بأن النقاش بشأن رئيس الحكومة الانتقالية صار جدياً وليس لدى المعارضة فحسب. إذ إن مطلب تغيير الرئيس فؤاد السنيورة صار مرتبطاً أكثر بجدول أعمال الحكومة الجديدة، وهو ما دفع بنافذين في تيار «المستقبل» إلى مناقشة الأمر بجدية، ولم ينف أحد ما نُسب إلى السيدة نازك الحريري من أن إقرار المحكمة الدولية يجب أن يرافقه توافق سياسي داخلي، وأنها تدعم تأليف حكومة انتقالية من شخصية غير انقسامية، وأن تكون في الوقت نفسه من صفوف 14 آذار، وأنها اقترحت اسم الوزير السابق بهيج طبارة لهذه المهمة.
وفي مكان آخر، لم يحدد بجدية، عاد الكلام على حكومة مصغرة تضم عدداً من الشخصيات التقنية، وإن كانت محسوبة على تيارات سياسية، وأن تكون برئاسة شخصية تتمتع بحضور خارجي وليست على عداء مع أحد من القوى النافذة محلياً وإقليمياً، في استعادة لتجربة الرئيس نجيب ميقاتي وحكومته التي أشرفت على الانتخابات النيابية الماضية ومهّدت الطريق عملياً أمام الإجراءات التي رافقت التحقيق المحلي والدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ومع أن قادة بارزين في المعارضة ينفون سماعهم بمبادرة محددة في هذا المجال، فإنهم يتحدثون عن استنتاجات قد تبدو منطقية، لكن تحوّلها إلى وقائع يتطلب أموراً كثيرة من بينها طريقة إقرار المحكمة وجدول الأعمال المتصل بها لبنانياً ودولياً، لا سيما أن هناك حديثاً قوياً عن طريقة في التصرف من جانب الأمم المتحدة تفرض العودة بالمحكمة إلى لبنان، من أجل ترتيب أمور كثيرة من بينها مسألة التمويل وتعيين قضاة لبنانيين وإدارة بعض الملفات التنفيذية المتعلقة بالتحقيق، لأن الشعور بلامسؤولية الفريق الحاكم وخلفيته الثأرية يتعاظم عند الآخرين، وقد يتحول إلى ما هو أكثر من احتجاج. كذلك هناك حقيقة النقاش بين بكركي والفريق المسيحي في 14 آذار حول مبدأ التوافق في الملف الرئاسي، وما إذا كان المطلوب الآن هو شن حملة على الفريق الآخر لمنع ترشيح العماد ميشال عون ثم فرض لائحة أسماء على أساس أنها مستقلة، مثل تكرار الكلام على أن شارل رزق أو رياض سلامة هما من خارج الاستقطاب السياسي وبالتالي يمكن ضمهما إلى آخرين مثل فارس بويز وجان عبيد في لائحة من يُعدّون من خارج ناديي الموالاة والمعارضة. علماً بأن الموقف الحقيقي لمسيحيي 14 آذار لا يزال يقوم على مبدأين: الأول منع التفاوض على أي اسم من الفريق الآخر لا على العماد عون فقط، ثم حصر الترشيحات بهم أو بمن يقترحونه هم. وهذا ما يخيف صفير أكثر من أي أحد آخر باعتبار أنه يعرف «جموح المرشحين»، على ما ينقل عنه وزير سابق ممن يحاولون دفع بكركي إلى موقف أكثر توازناً من القائم حالياً.
ومع ذلك هناك تحليلات كثيرة حول ما يمكن أن يقدم عليه صفير في المرحلة المقبلة، وحقيقة توافقه مع الجانب الأميركي على تمرير قطوع الرئاسة بأقل خسائر ممكنة. ويرد في هذا السياق أن صفير وولش ربما يعيشان أكثر من غيرهما ذعر قيام حكومة ثانية، وعندما توجه البطريرك إلى بعبدا كان في ظنه أن لحود يقترب سريعاً من خطوة إعلان حكومة ثانية، وربما نجح هو في انتزاع تعهد من رئيس الجمهورية بعدم الإقدام على هذه الخطوة، إلا إذا تعذر حصول انتخابات رئاسية وفق الدستور. وهو أوضح هنا أن الدستور يفرض نصاب الثلثين، وبالتالي فإن توفير هذا النصاب يتطلب توافقاً بين جميع القوى. وبذلك فإن صفير الذي حصل من لحود على هذا الوعد، وضع في جيبه أن أمامه أربعة أشهر على الأقل لتوفير مناخ توافقي، خصوصاً أنه قدم للرئيس في المقابل موقفاً ثابتاً من مسألة النصاب، الأمر الذي احتاج إلى متابعة. وقد قام صفير بهذا الأمر مع الأميركيين، وكذلك فعل الفاتيكان. ويبدو أن هناك توافقاً بين الكنيسة والولايات المتحدة على أنّ عدم حصول انفجار يتطلب تثبيت مبدأ نصاب الثلثين، علماً بأن ولش ليس مضطراً الآن لإعلان موقف كهذا، لأنه يدرك أن فيه خسارة ولو تكتيكية لفريق 14 آذار، لكن يبدو أنه مضطر لخطوة من هذا النوع حتى لا يتورط فريق 14 آذار في خطوة من طرف واحد تؤدي عملياً إلى الانفجار الكبير.
وفي انتظار الأيام المقبلة، فإن الحديث عن مبادرات من هنا أو هناك تظل رهن البيان السياسي الأول الذي سيصدر عن فريق 14 آذار بعد إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن الدولي، وما إذا كان هذا الفريق سيضع ملف المحكمة والتحقيق جانباً ويفتح الباب أمام عملية سياسية من نوع مختلف.