نقولا ناصيف
بحسب مطّلعين على اللقاء الذي جمع الرئيس نبيه بري بمساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى دافيد ولش، الأربعاء الفائت (16 أيار)، زوّد رئيس المجلس زائره ملفاً يتناول مواقف أفرقاء لبنانيين من انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1988، طالبوا إبانها باعتماد نصاب الثلثين لانتخاب الرئيس، وأصرّوا على المرشح التوافقي لإمرار الاستحقاق.
كان بري يبرّر بذلك شرطيه الرئيسيين لإنجاز انتخابات 2007 بنجاح، توطئة للانتقال باللبنانيين إلى حقبة جديدة. وفي سياق حديثه مع ولش، رأى بري ـــــ تبعاً للمطلعين أنفسهم ــــــ أن التوصّل إلى مرشح توافقي، أو أكثر، يخرج البلاد من مأزقها، وأبرز له نموذجين لسلوكين متعارضين في طريقة تعامل كل من قوى 14 آذار والمعارضة مع انتخاب الرئيس، بأن استشهد بموقفين صدرا في يوم واحد في صحيفة: أولهما له هو مطالباً فيه بمرشح توافقي للرئاسة مع اعتقاده بإمكان أن يكون المرشح من فريق 14 آذار أو من فريق 8 آذار، وأن التوافق هو الذي يؤدي إلى اختيار أحدهما. وثانيهما تصريح لرئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري أيّد فيه انتخاب رئيس توافقي شرط أن يكون من قوى 14 آذار، الأمر الذي ينطوي، في رأي بري، على تناقض صريح بين التوافق والإصرار على مرشح من فريق واحد. وخاطب ولش بما كان قد خاطب به رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي عندما استقبلها في 2 نيسان، قائلاً إن المشكلة تكمن في واقع الحكومة لا في إقرار المحكمة الدولية. وسأل ولش بعد بيلوسي: هل كان الكونغرس الأميركي ليتكوّن لو قاطعت ولاية أميركية المشاركة في انتخاباته؟.
في خلاصة حوار الرجلين، يقول المطلعون، تفهّم ولش شرطي بري، وبدا أنه قد يكون سلّم بحتمية الثلثين نصاباً دستورياً لانعقاد جلسة انتخاب الرئيس في المهلة الدستورية التي ألحّ الزائر الأميركي عليها.
في الملف الذي سلّمه رئيس المجلس إلى ولش بضعة مواقف أبرزها للدكتور سمير جعجع عام 1988، وكان قائداً لـ«القوات اللبنانية»، حين أيّد تعطيل نصاب جلسة 18 آب 1988 للحؤول دون انتخاب الرئيس سليمان فرنجيه، وطالب باعتماد الثلثين نصاباً للجلسة وانتخاب رئيس توافقي. وكانت قد تلاحقت سلسلة مواقف لجعجع و«القوات»، وكذلك نائب قائد «القوات» كريم بقرادوني بين 27 تموز 1988 و19 آب. انتخاب 1988، إذاً، استنبط عبارة «الرئيس التوافقي». في ظل توازن قوى سياسي وعسكري بين الجيش السوري و«القوات اللبنانية» سنتذاك، رفضت الأخيرة، على أبواب انتخاب الرئاسة، ما سمّته «مرشح التحدّي» الذي كان يمثل غلبة فريق لبناني على آخر، وغَلَبة دمشق على بعض مسيحيي لبنان. كان المرشحون الذين يمثلون هذه الصفة ثلاثة: فرنجيه وريمون إده وقائد الجيش العماد ميشال عون. ولكل من هؤلاء مشكلة مع جعجع و«القوات»: الأول بسبب مجزرة إهدن، والثاني بسبب موقفه من الميليشيات وإعدام الميليشيا المسيحية مسيحيين واتهامه إياها بالتعامل مع إسرائيل، والثالث بسبب موقعه على رأس قيادة الجيش التي كانت ندّ الميليشيا في السيطرة على المناطق المسيحية. رشحّت سوريا فرنجيه، ولزم إده منفاه الباريسي، ودخل عون طرفاً ثالثاً في الصراع على السلطة وعلى الزعامة المسيحية في مرحلة ما بعد الانتقال الدستوري، بين الرئيس أمين الجميل وسمير جعجع. كانت واشنطن ترفض في ذلك الحين محاورة دمشق في الاستحقاق الرئاسي اللبناني، لكنها ـــــ كاليوم ـــــ تصرّ على إجراء الانتخاب في موعده الدستوري، وكان فرنجيه والأميركيون يتبادلون الكراهية. لم ينسَ فرنجية معاملة أميركا غير اللائقة له رئيساً عام 1974 عندما فتشت حقائبه في مطار نيويورك، ولم ينسَ دورها في تقويض السنتين الأخيرتين من حكمه. ولم تنسَ هي استخفافها برئاسته عام 1973 عندما التقى فرنجيه في مطار رياق وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر. رفضت واشنطن رئيساً تريده سوريا كرفضها هذه الأيام، وأفادت دمشق من ترشيح فرنجيه لاستدراج الأميركيين إلى فخّ مفاوضتها. ولم يكن يضيرها انتخاب الرئيس المتقدّم في السنّ ـــــ إذا نجح ـــــ لقلب التوازن الداخلي في لبنان.
كانت جلسة 18 آب هي الاختبار. لم يكتمل فيها نصاب الثلثين بسبب منع النواب المقيمين في المناطق المسيحية من التوجه إلى قصر منصور. فتعذّرت عودة فرنجيه.
كان قد سبق انعقاد الجلسة اجتماع أمني في 10 آب 1988، برئاسة رئيس المجلس السيد حسين الحسيني، ضمّ رئيس الحكومة بالوكالة سليم الحص ووزير الدفاع عادل عسيران ووزير الداخلية عبد الله الراسي ووزير المال بالوكالة جوزف الهاشم والعماد عون والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عمر مخزومي، ناقش أمن جلسة المرشح الوحيد، وسبل تأمين وصول النواب. ولأن المرشح حليف لدمشق، أرسل القائم بالأعمال الأميركي دانيال سمبسون الذي حلّ محل السفير جون كيلي بعد استدعائه إلى واشنطن، إشارات إلى حلفائه المسيحيين لعرقلة جلسة انتخاب الزعيم الزغرتاوي. يومذاك تعهّد عون حماية انتقال النواب إلى المجلس. صباح 18 آب نشرت «القوات اللبنانية» مسلّحيها عند مفترق الطرق المؤدية إلى قصر منصور، وحالت دون وصول النواب. لم يكتمل نصاب الثلثين بعدما حضر 38 نائباً، بينما تطلّب الثلثان حضور 53 نائباً من مجموع 79.
كان ذلك أول اختبار قوة بين الأميركيين والسوريين الذين ربحوا الجولة الأولى بعد شهر، بإرغامهم واشنطن على التفاوض معها في شأن الرئاسة اللبنانية. ذهب ريتشارد مورفي، سلف ولش، إلى الرئيس حافظ الأسد في 18 أيلول، وأجريا المقايضة الشهيرة: تريد واشنطن إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها لكن من دون رئيس بمواصفات فرنجيه، وتريد دمشق الوفاق والإصلاح قبل الانتخابات. انتهت الصفقة بإرضاء متبادل: يؤجل الوفاق والإصلاح إلى ما بعد انتخاب رئيس جديد للبنان فيجرى الاستحقاق في موعده الدستوري، ولا يأتي فرنجية رئيساً شرط أن تسمي سوريا مرشحاً وحيداً يصير رئيساً هو النائب السابق مخايل ضاهر. أيّد مورفي المقايضة وروّج لها لدى الجميل وبكركي، وسمبسون لدى عون وجعجع. رفضها المسيحيون جميعاً. فوقع الفراغ الدستوري. لكن الحوار الأميركي ــــــ السوري كان قد حصل.
عشية جلسة 18 آب، أصدرت «القوات اللبنانية» برئاسة جعجع بياناً دعا إلى «منع وصول رئيس تصادمي»، وإلى «ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية من ضمن المهلة الدستورية، على أن يسبقها تفاهم على مرشح لا يحمل أحقاداً ضد أحد، ولا يمثّل مجيئه إلى الحكم تحدياً لأحد». وحضت على «التوافق على رئيس جديد يحمل مشروعاً واحداً هو المصالحة بين اللبنانيين، ومنع التدخلات الخارجية في الشؤون اللبنانية الداخلية. فالرئيس التوافقي هو الرئيس الذي يستطيع أن يُخرج لبنان من براثن التدخلات الخارجية (...)». وفي اليوم التالي لتعطيل جلسة الانتخاب، 19 آب، أصدر جعجع بياناً رأى فيه أن عدم اكتمال النصاب «يعود إلى أن أكثرية النواب ترى أن ترشيح فرنجيه ليس في محله وسيؤدي إلى خراب البلاد». وإذ هنأ اللبنانيين «على هذا الانتصار» والنواب «على هذه الإرادة»، لاحظ أن «المرشح التوافقي هو أفضل حل».