أنسي الحاج
ذهبتُ إلى «جرصة» وأنا قلق: كيف سيتمكّن رفيق علي أحمد من ملء المسرح وحده ساعة وأكثر دون تضجير؟
لكنّها ليست المرّة الأولى. والأمل أن لا تكون الأخيرة. وَجْهُ رفيق علي أحمد موجز لمسرح كامل، على حدّ تعبير رفيقتي في الحضور. مرّت الساعة دون انتباه. ودون انتباه إلى أننا نحضر ممثلاً واحداً لا شريك له. كان جبين رفيق علي أحمد مرآةً عكست عشرات الوجوه بل الأرواح، فوق جسد يضجّ بالحيويّة والإيحاءات كفرقة بأسرها.
ذكريات تَحفر وتتشظّى. تداعيات تَبْرق بَرْقاً، صرخات وَجَع وغضب من الطائفية، الظلم، الغباء، الفقر، الجوع العاطفي. كل محطّة أشدّ عنفاً ورقّةً من سابقتها. وبين ذراها محطة خَصْي الثور في القرية. كان رفيق علي أحمد وحده على الخشبة يملأ الدنيا أكثر ممّا ملأها وهو محاط بجمهرة من الفنّانين في «سقراط».
«أنا» كهذه الأنا تستحقّ أن تصادر الوقت والمكان. بكلّ عريها وتوسّعها. لأنّها تتحوّل إلى «أنا» كل مُشاهد لها. على الأقل طوال مدّة العرض المَطْهريّ.
ليت رفيق علي أحمد يمضي أَعمق في الغوص حيث يجوس. ربما يقال: الجمهور الشعبي لا يحتمل الإرهاق. تبّاً لذرائع كهذه. عندما يشعّ الممثل إشعاعاً كهذا لا تُرْسَم له حدود. وعندما يتناول كاتب شؤوناً كهذه يُسْتَحسن المضيّ في غرز السكّين. الدليل أنه حيث غَرّز، انتزع رفيق علي أحمد أكثر من التصفيق: انتزع الدموع.
تحيّة إلى وحش المسرح هذا.

على ماذا تقوم براعة الممثل؟ الصوت؟ الوجه؟ الجسد؟ الذاكرة؟ البعض يلخّصها بكلمة: الحضور. لكن الحضور نتيجة. قبل النتيجة هناك عوامل وأركان. على أية أركان؟ خالطتُ العديدين في عالم المسرح، في التمارين والكواليس ومن مقاعد الجمهور. وفي صداقات. لم أعرف السرّ. كان شوشو (حسن علاء الدين) في الحياة اليومية رجلاً دمثاً يبدو سريع العطب. كومة أحلام وتبغ وهموم. وما إن يصعد إلى المسرح حتى يتفجّر كالصاروخ. لم يكن يُضحك في جلسة المقهى وكان لا يكفّ عن الإضحاك (وأحياناً الإبكاء) على المسرح.
يعطي بعضهم الأهمية الكبرى للمؤلّفين وللمخرجين. يعتبرون الممثّل مؤدّياً تتكيّف عجينته مع الخبّاز. مهما يكن في هذه النظرة من صحّة، لا يجوز أن تحجب عبقريّة الممثل. ليس أكيداً أن أفلام شارلي شابلن كانت ستنجح بهذا القَدْر لو مثّلها غيره. ولا دور الكولونيل في «آبوكاليبس ناو» الذي اضطلع به مارلون براندو. ولا أدوار جيمس دين. ثمّة ممثلون يضيفون إلى أدوارهم بشكل أساسي حتى لتصبح مخلوقة على يدهم. مخرج كريمون جبارة يعرف هذه الحقيقة، لأنه أكثر من يؤمن بتوجيه الممثل ثم ترك الحريّة له كي يستكمل شخصيته بمعدنه الخاص. والممثلون المتمكّنون يرتاحون إلى العمل تحت إشرافه لأنه يتيح لهم مجال التفتّح والإشراق والإسهام في صناعة المسرحيّة عن طريق أداء شبه حرّ.
ثمّة حالات يُلْهم فيها الممثلُ المخرج، بل المؤلف. بقدر ما صنع الرحبانيان أدوار فيروز وأغانيها قادتهما شخصيّتها الواقعيّة إلى تركيب أدوار لها (وأغنيات) مستوحاة من طباعها.

لم أعرف أكثر إغراء على المسرح (أو في السينما) من الخجولين. لعلّهم الأقدر على التقمّص. أنطوان كرباج شديد التواضع والخَفَر في الحياة العامة، أسد زائر وبحر هادر على المسرح. فيروز تختفي من الحياة العامة، وتشبه في علاقاتها الخاصة الظل الذي يوشك أن يتبخّر، وعندما تطل على المسرح تملأه كالطوفان.
لنعد إلى أنطوان كرباج لمناسبة حديثه قبل أيام إلى زاهي وهبي في تلفزيون «المستقبل».
ترقى معرفتي به إلى منتصف الستّينات، عهد تأسيس المسرح الحديث مع منير أبو دبس وأنطوان ملتقى وريمون جبارة ويعقوب الشدراوي وشكيب خوري وبرج فازليان ثم بعد حين مع روجيه عساف ونضال الأشقر وجلال خوري. كانت رضى خوري نجمة فرقة أبو دبس، رضى المرأة المنتصَفَة بين الليل والنهار، المُشعّة كماسةٍ سوداء. وممَن نسيتهُم الذاكرة ظلْماً، تيودورا راسي، الشغوفة المضطرمة بين رهافة وقوّة. ورياض غلميّة. ولنمضِ مع شريط الذكريات، وبعضها متواصل في الحاضر: موريس معلوف، أندريه جدعون، جوزف طرّاب، مادونا غازي، لطيفة ملتقى، منير غاوي، حسني موسى، جوزف حدّاد. جوزف بو نصار. رضى كبريت. نبيه أبو الحسن الياس الياس. كميل سلامة. وغيرهم ممّن تخونني الذاكرة حولهم. لقد بذل هؤلاء حياتهم لتأسيس مسرح لبناني حديث. وقد أسّسوه وعلى نحو ممتاز، واكب وأحياناً تقدَّم نهضتيْ الشعر والرسم الحديثين.
بين المَشاهد التي لا تُنسى، أنطوان ملتقى وريمون جبارة في «جريمة وعقاب» المأخوذة من دوستيوفسكي، عام 1964 على الأرجح، على مسرح راشانا البترونية العابق بروح ميشال بصبوص.ومشاهد أندريه جدعون بالفرنسيّة في «أب» لسترندبرغ من إخراج فازليان. ومشاهد روجيه عسّاف في كل أدواره سواء بالفرنسيّة بداية أو بالعربيّة. ومشاهد أنطوان كرباج في «الملك يموت» لأوجين يونيسكو عام 1965 على مسرح الجامعة الأميركيّة، وقد نَقَلها كاتب هذه السطور إلى العربيّة وأخرجها منير أبو دبس ومثّلها، مع كرباج في دور الملك، رضى خوري، رونيه ديك، منى جبارة، ميشال نبعة ونبيل معماري.
خَلَق كرباج في هذه المسرحيّة ــــــ ولعلّها أجمل أعمال يونيسكو ــــــ شخصيّة آسرة جارحة هي مزيج من طفل مرعوب وكهل متسلّط مشرفٍ على الموت ويرفض أن يقوم بالقفزة الحاسمة. «يموت» ساعة وربع الساعة أمام جمهور حائر بين الضحك والبكاء، بين الخوف والقهقهة من الخوف. حضرتُ بصحبة الأخوين رحباني. كنت متوجّساً من موقفهما، فما بيننا من جدل حول الحداثة لا ينتهي. كان يونيسكو رمزاً من رموز مسرح اللامعقول، وعاصي الرحباني ينام ويصحو على مشارعة نفسه والدنيا في الإيمان والكفر، والمعقول واللامعقول، والكلاسيكيّة والطليعيّة، والمنطق والعَبَث، ولبنان... واللبنانيين.
«صُدم» الأخوان بالمسرحيّة صدمةً إيجابيّة ضيّقت أمامهما حجم الهجوم، على الأقلّ أمامي. ولم تلبث صدمتهما أن أثمرت تعاوناً دائماً مع أنطوان كرباج في الأدوار الرئيسيّة أمام فيروز، بدأها بـ«الشخص» وبلغت ذراها في «يعيش يعيش» و«صحّ النوم» و«ناطورة المفاتيح» واستؤنفت بالأمس مع زياد الرحباني عبر إعادة تقديم «صحّ النوم» في «البيال».
كلّما شاهدتُ كرباج في مسرحية رحبانيّة حَضَرتْ أمامي شخصيّته في «الملك يموت». ليتها كانت مسجّلة ليرى المتتبّعون كم هي متماسكة ومتنامية ومتنوّعة وغنيّة في وحدتها، شخصيّة هذا الممثل الجبّار الذي لا مبالغة في القول إنه الوحيد الذي استطاع الوقوف أمام فيروز دون أن تلتهم شخصيّتها الأسطوريّة فاعليته. وفي هذا وحده كلّ المديح.
لا تُمحى من الجوارح صُور كرباج في «الملك يموت». نَقَل بشحنات هائلة من التركيز والتقمّص خلجات شخصيّة في أحرج لحظاتها. ملك يكتشف، وهو على شفا النهاية، قيمة الحياة، حتّى قيمة أتفه ما في الحياة. يكتشف الحياة، ورِجْل له في القبر، يكتشف الحياة للمرة الأولى. قيمة كلّ قضمة فاكهة، كلّ نزهة، كلّ حركة، كل إزعاج لا كل متعة فحسب. ملك يتشبّث بأنفاسه والملكتان حوله تشجّعانه على القبول بالموت. وكل كلمة يلفظها تردّ عنه شبح النهاية إذ تستنير كبقعة مشمسة وسط الظلام المتضاعف وتُعشّق الجمهور بالحياة تَعْشيق الأمّ لرضيعها.
كانت سلوى السعيد، إحدى مؤسسات مهرجانات بعلبك، شديدة الحماسة للمسرحيّة، تقول لمَن تصادفه إنها شاهدت الأصل في باريس وشاهدت الترجمة الإنكليزية في لندن ولم يعجبها الملك فيهما قَدْر عِشر هذا الملك اللبناني. ولمّا التقيتُ يونيسكو في بيروت بعد ذلك وسألني كيف كانت أحوال مسرحيّته بالعربيّة، وكان إلى جانبي جورج شحاده، حدّثتُه عن الكيفيّة التي أدّى بها كرباج الدور، واعتذرت منه عن السياق الذي أخَذَتْه المسرحيّة بالعربية ترجمةً وإخراجاً وأداءً، إذ كانت تنتزع الضحك أحياناً رغم سوداويتها، فَخَبط يداً بيد وصاح: «تعتذر!؟ هذا هو ما أردتُه من الأساس! لم يفهموا عليّ في باريس! في المسرحيّة أوقات لا يمكن إلاّ أن تَبعث على الضحك، ضحكٌ مُرّ، لا بأس، ولكنْ ضحك!... شكراً لكم! (واستدار نحو جورج شحاده قائلاً:) يا صديقي جورج، فهمتموني في بيروت أكثر ممّا فهمني أحد».
كان ذلك خلال حفل استقبال في قصر الصنوبر. كان منير أبو دبس وفرقته حاضرين. جئت متأخراً، ولم أشاهد اللقاء بين المؤلّف والمؤدّي ولا بين المؤلّف والمخرج. ما أذكره أن شحاده اصطحبني رغم خجلي قائلاً: «أنا أخجل أكثر منك! لكنْ المؤلّف يهمّه اللقاء بمترجم مسرحيته. هذه عقليّة الغربيّين. كلّها ساعة زمان».
نقلتُ انطباعاتي وكلاماً ليونيسكو في اليوم التالي على صفحات «النهار». رغم الإشادة بالترجمة، رغم إجادة المخرج وجميع الممثّلين والممثّلات، أشهدُ أن أنطوان كرباج وضع في هذا الدور أقصى طاقاته، وأدخله إلى الذاكرة الشعبيّة والمسرحيّة فأضحى ــــــ على الأقل للّذين أتيح لهم مشاهدة المسرحيّة يومها ــــــ كاراكتيراً فريداً يقف عند تلاقي الدروب بين الوعي والجنون وبين الطفولة والشرّ.
ولعلّه أهمّ من جسّده في العالم

جانبٌ كبيرٌ من ذاكرة المسرح اللبناني غير مسجَّل. لم يكن الفيديو شائعاً. حتى «الليالي اللبنانية» في مهرجانات بعلبك، لولا التسجيل الإذاعي وبعض اللقطات التلفزيونية، لما بقي لها أثر. شوشو المسرح أفضل كثيراً من شوشو التلفزيون، والأول غير مسجَّل. أبو دبس، ملتقى، ريمون جبارة، روجيه عساف، نضال الأشقر، برج فازليان، يعقوب الشدراوي، جلال خوري وغيرهم وغيرهم، لو أمكن التلفزيون أن يصوّر أعمالهم الأولى لكانت في أقلّ تقدير مدرسة لطلاب المسرح. قامت خالدة سعيد بجهد ضخم في كتابها الموثّق عن المسرح اللبناني، الذي يعود الفضل في فكرته إلى المرحومة سعاد نجّار. لقد اشتغلت خالدة على كتابها هذا شغلها النظري والآخر الميداني طوال سنوات بصبر وتدقيق وأمانة عزّ نظيرها، وكتابها هو المرجع الأفضل في حقله. ولا يزال الحقل قابلاً للنبش. الحقبة المسرحيّة الذهبيّة في لبنان تميّزت، بالإضافة إلى عطاءاتها السخيّة على الخشبة، بحُمّى تجريبيّة صاخبة وصادقة لعلّها جَمَحتْ في آفاقها أكثر من باقي ميادين الوثبة الأدبيّة والفنيّة. ليت روّادها يدوّنون ذكرياتهم. ولم يقتصر نشاط المسرحيين على المسرحيات، بل شمل الشعر. وقبل أن تغامر ماجدة الرومي وهبة قواس وعابد عاذرية وجاهدة وهبه بغناء النثر كان المسرحيون اللبنانيون روّاد هذه المغامرة. الذين حضروا «إعرب ما يلي» في مطلع السبعينات ليعقوب الشدراوي لن ينسوا كيف مَسْرَحَ قصائد لم تكن مخيّلة تتصوّر إمكان مَسْرَحتها. ريمون جبارة، روجيه عساف، شكيب خوري، نضال الأشقر، فؤاد نعيم، رفعت طربيه، جوزف بو نصار، نبيل الأظن، رضوان حمزة، وغيرهم، أدخلوا عن هذا الطريق قصائد عربية حديثة كثيرة إلى القلوب بعد الأذهان. لم تترك نضال الأشقر مسرحاً ولا منبراً في العالم العربي لم تتوهّج عليه بإلقاء أمثال تلك القصائد. أنا شخصياً مدين لها بالكثير. وسواي. وحَفَرَ إلقاء جوليا قصّار ورندة الأسمر وليليان يونس وتقلا شمعون أشعاراً في الذاكرة حَفْر الأغنية.

تُرى، مَن يَنزل وراء الستار حين يُسْدَل الستار؟
الصدى أم العيون؟
أم عيون جمهورٍ آخر، جمهور خَفيّ مجهول المصدر، يؤجّل انفعالاته ريثما تخلو الصالة ويسود الفراغ؟
المسرح يقايض مع العالم، يقول له: إذا لم تستطع أن تأخذ معنى، دَعْكَ، أنا سأعطيهم معناك المفقود.
لقد كان الأنين من العذاب في أساس نشوء اللغة، ومحاولةُ الهرب من مخالب القلق في أساس نشوء المسرح. إنه من أقدم وأبلغ السيوف التي بارز بها الإنسانُ القَدَر.
عرف لبنان الحديث أنواعاً مختلفة من المسرح، بينها الأبرزان: المسرح اللازمني (الفضل الأكبر في تحمّل عبئه يعود إلى منير أبو دبس، فملتقى وجبارة وشكيب خوري) والمسرح الملتزم، ونجومه معروفون من يعقوب الشدراوي وجلال خوري وروجيه عسّاف وعصام محفوظ إلى زياد الرحباني. أحياناً، كان يتلاقى النوعان في مسرح واحد. لعلّها، بل هي بالتأكيد لحظة العرس المسرحي الأكثر تناغماً.
الجيل المسرحي الجديد في لبنان والعالم العربي يقول لنا: ليَسقط ما يَسقط حوالينا، نحن من جهتنا سنظلّ نَنْهض.
... بذاكرة تراثيّة مدوّنة وظاهرة، أم مستترة ومحفورة في خلايا التكوين.