عرفات حجازي
لا أحد يجادل بأن الاستحقاق الرئاسي بات ملف المرحلة اللبنانية الراهنة بعدما أخذت المحكمة ذات الطابع الدولي طريقها الى مجلس الأمن. كما لا يجادل أحد بأن البطريرك الماروني نصر الله صفير يمثّل إبرة الميزان، وأنه بطريرك المرحلة السياسية اللبنانية. فهو، بشهادة الجميع، في الموالاة والمعارضة، من اتفقوا معه في الرأي ومن خالفوه جامع مشترك أقله بالنسبة إلى الاطراف المسيحية، وقد أوحت مواقفه المعلنة بأنه ما زال على قناعة بأن المشاكل والأزمات لم تخرج بعد عن حدود إمكان ابتداع الحلول وتجنيب البلد الدخول في الأنفاق المظلمة والذهاب الى صراعات لا تعود تنفع معها السياسات المتّبعة. ولعّل الخلاصات التي انتهى اليها مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ولش كرست الدور المحوري والطليعي للبطريرك الماروني في العمل على إيجاد ممرات آمنة للاستحقاق الرئاسي وتجنّب الفراغ السياسي بعدما تأكد من خلال اجتماعات عقدها مع 11 شخصية قيادية حجم التعقيدات التي تتحكم بالأزمة ووصوله الى تصور قدّمه الى وزيرة الخارجية الأميركية لما يجب أن تكون عليه الأمور والمسالك الواجب اتباعها في المرحلة المقبلة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي في موعده الدستوري وآلية تنظيمه.
ويؤكد العارفون والمطلعون على طبيعة المهمة العاجلة للدبلوماسي الأميركي أنه لم يأت لطرح تسوية داخلية تمهّد للوصول الى انتقال هادئ وسلس للسلطة، بل أوحى إلى من التقاهم بأن بلاده لا تعارض سياسة الأبواب المفتوحة أمام الضرورات المحلية الممكنة. صحيح أنه نقل الى فريق الموالاة حرص الولايات المتحدة على دعم الحكومة القائمة والتزامها مراعاة مصالحها في لبنان في أي تفاهمات محتملة في شأن المنطقة وأنه من غير الوارد إجراء أي صفقة على حسابهم، لكنه في المقابل رأى استحالة إجراء الانتخابات من دون تسوية. بسبب المعادلة السلبية القائمة على امتلاك الأكثرية لورقة الانتخاب يقابلها امتلاك الأقلية لورقة النصاب، وبالتالي يستحيل على أي فريق أن يحسم المعركة لمصلحته، ما يحتّم الوصول الى توافق على الرئيس المقبل الذي يمثّل بوابة الوفاق على جميع القضايا المختلف عليها.
وفي المعلومات المتوافرة من أكثر من مصدر أن المسؤول الأميركي طلب الى فريق 14 آذار تفويض البطريرك صفير القيام باتصالات ومشاورات مع رئيس المجلس الذي لم يخفِ ارتياحه لطروحاته وامتلاكه لحسّ المسؤولية الوطنية وسعيه الدائم إلى الوفاق والتفاهم على عملية إخراج التسوية وحماية الاستحقاق الرئاسي ووجوب إنجازه في موعده الدستوري. واذ حاذر ولش الدخول في لعبة الأسماء لا تصريحاً ولا تلميحاً اكتفى في هذا المجال بذكر مواصفات عامة، ولم يقل مرة إنه يؤيد ويدعم فكرة أن يكون الرئيس المقبل من فريق 14 آذار، ومن المشكوك فيه أنه طلب الى هذا الفريق الاتفاق على مرشح واحد من صفوفه. وهناك من يعتقد جازماً أن الرجل غادر متأثراً بوجهة نظر رئيس المجلس النيابي في ما خصّ نصاب الثلثين لجلسة انتخاب الرئيس، وأن هذه المسألة شرط أساسي ومدخل الى حصول توافق، وهو مقتنع بنظرية الرئيس التوافقي الذي لا يكون منتمياً الى أيّ من طرفي الصراع وبأن المخاطر محدقة بالاستحقاق إذا لم يجر على هذا الأساس التوافقي.
وليس بعيداً من هذا التحوّل الأميركي والانتقال من سياسة القوة الى قوة الدبلوماسية وتغيير نمط التعاطي مع الملف اللبناني لجهة الحرص على التوافق والتسوية بعيداً عن سياسة الإملاء والإكراه مسارعة قوى 14 آذار الى الإعلان عن عزمها طرح مبادرة سياسية للحل تأخذ في الاعتبار مطالب وهواجس قوى الثامن من آذار وإبداء مرونة لافتة في موضوع حكومة الوحدة الوطنية التي لطالما اعتبرتها المعارضة مكمن الداء وأساس المشكلة.
وفي تقدير المراقبين السياسيين أن المنحى الجديد لفريق السلطة يأتي على خلفية خشيتهم من الاتصالات والمفاوضات الإقليمية الجارية والمعلومات المؤكدة من جانب السفيرين السعودي والإيراني في لبنان عن مشروع تحرّك ثلاثي إيراني ــ سعودي ــ سوري في شأن الوضع في لبنان لاحتواء التوترات السياسية وإنتاج صيغة توافقية للموضوع الرئاسي، وما يمثّل خطراً جدّياً على مشروعهم في ترتيب الاستحقاق الرئاسي وفق مصالحهم وإيصال أحد المرشحين في صفوفهم الى قصر بعبدا.
ويعتقد دبلوماسي عربي متابع بدقة لتفاصيل الحياة السياسية في لبنان أن الاستحقاق الرئاسي اليوم لا يختلف عن الاستحقاقات السابقة والمتعاقبة منذ الاستقلال، فمفاتيحه في الغالب الأعم كانت في يد الدول المؤثرة من خارج الحدود وإن تبدلت الأماكن جغرافياً.
وقياساً على ما تقدم فالتوافق على الرئيس المقبل سيأتي بتوافق من الخارج وكل ما يستطيعه فرقاء الداخل هو تحضير الأجواء لتمريره وفق الشروط التي يُتفق عليها، علماً بأن الاسم التوافقي سيكون نتيجة تقاطع المصالح بين جميع الفرقاء.