نقولا ناصيف
فتحت الاشتباكات بين الجيش وتنظيم «فتح الإسلام»، المستمرة بعنف منذ الأحد الفائت (20 أيار)، مجدداً ملف السلاح غير الشرعي في المخيمات والمعسكرات الفلسطينية. لكن بكلفة أمنية وسياسية عالية. وبدا أن ما تعذّر حصوله سياسياً، وهو نزع السلاح غير الشرعي خارج المخيمات الذي أقره بالإجماع مؤتمر الحوار الوطني في 2 آذار 2006، سيُقابل بتعذّر عسكري مماثل استناداً إلى ملاحظات تدرجها جهات رفيعة المستوى ومعنية، في الآتي:
1 ــــــ تهيّب حكومة الرئيس فؤاد السنيورة اتخاذ قرار صريح بإصدار أمر إلى الجيش بدخول مخيم نهر البارد للقضاء نهائياً على تنظيم «فتح الإسلام»، وذلك لأسباب سياسية لا تقل خطورة عن النتائج العسكرية. ويكمن هذا التهيّب في أن دخول مخيم نهر البارد يفتح الباب عريضاً على خطوة مشابهة لمخيمات فلسطينية أخرى تقيم فيها شلل وتنظيمات سنية متشددة، شأن ما هو حاصل في مخيم عين الحلوة بالنسبة إلى «جند الشام» و«عصبة الأنصار» المطلوبة للعدالة كـ«فتح الإسلام»، وكذلك تجمعات عسكرية فلسطينية وأخرى متشددة خارج المخيمات متمركزة في قوسايا والسلطان يعقوب وحلوة وأنفاق الناعمة بزعامة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــــــ القيادة العامة و«فتح الانتفاضة».
الأمر الذي ينتقل بالمشكلة من مواجهة عسكرية مع تنظيم معتدٍ لا يحظى بأي غطاء فلسطيني وسياسي سني لبناني في الظاهر على الأقل، إلى أخرى عسكرية وسياسية لبنانية ـــ فلسطينية. الأمر الذي لا يجعل حكومة السنيورة مهيأة لمجازفة كهذه في الوقت الحاضر، ولا تدخل في أولويات خططها القريبة.
لذا اقتصر الموقف الحكومي على تأكيد دعم الجيش وإطلاق يده في المواجهة الضارية مع «فتح الإسلام»، ولكن من غير اقتحام مخيم نهر البارد.
2 ــــــ خطورة التوصل إلى اتفاق لوقف النار بين الجيش و«فتح الإسلام»، كما لو أن هذا الأمر هو هدف في ذاته، بدعوى وضع حدّ لمزيد من التدهور الأمني وسقوط قتلى وجرحى داخل مخيم نهر البارد. على أن وقفاً للنار قبل أن يحسم الجيش المواجهة العسكرية نهائياً، يمثّل اعترافاً خطيراً بـ«فتح الإسلام» كتنظيم فرض أمراً واقعاً على مخيم نهر البارد وعلى السلطة اللبنانية والجيش في آن واحد، على نحو مماثل لما كان خَبِره لبنان في علاقته مع المنظمات الفلسطينية عام 1969.
3 ـــ تصاعد وتيرة المطالبة بحل سياسي للمشكلة التي نشأت عن الاعتداء الذي شنّه التنظيم المتشدّد على الجيش، الأمر الذي يؤول إلى ربط خطوط التماس الأمنية عند مداخل مخيم نهر البارد، بخطوط تماس سياسية تتصل بالاعتراف بوجود قوة متشددة سنية دخلت معادلة الصراع السياسي اللبناني.
وفي واقع الأمر، فإن أخطر ما يمكن أن ينجم عن المطالبة بحل سياسي هو دفع أحداث الشمال إلى طاولة تفاوض، أياً يكن المعنيون بها. وهو ما ترفضه قيادة الجيش التي كانت قد خاضت في كانون الثاني 2000 أحداثاً مشابهة بضراوتها الميدانية في جرود الضنية مع متشددين مماثلين حوكم بعضهم وسجن، قبل أن يلتحقوا بمقايضة سياسية في تموز 2005.
الأمر نفسه كان قد حدث أيضاً عام 1998 عندما واجه الجيش في البقاع الشيخ صبحي الطفيلي وأنصاره المنشقين عن حزب الله، واشتبك معهم في عين بورضاي وخسر ضباطاً وجنوداً، على أن الحماية السياسية لدور الطفيلي أبقته إلى اليوم ـــ وبعدما غادر الجيش السوري لبنان وكان مصدراً رئيسياً لحمايته ـــ خارج أي ملاحقة تتجاوز الورق ومذكرات التوقيف.
وهكذا، في سنوات قليلة دفع الجيش، حتى أحداث الأشهر الأخيرة، كلفة التجاذب السياسي المحموم على ملف الأصولية المتشددة، وكاد، بطريقة ما، أن يدفع ثمناً مماثلاً في نزاع داخلي يوم 14 آذار 2005، وفي أحداث 5 شباط 2006 في الأشرفية، وفي تنفيذ القرار 1701 جنوب نهر الليطاني في آب 2006، وفي اعتصام المعارضة في ساحة رياض الصلح في الأول من كانون الأول 2006، وكذلك في أحداث 23 كانون الثاني الفائت و25 منه.
4 ــ الغموض الذي طبع، في الساعات الأخيرة، الموقف الفلسطيني في لبنان من أحداث مخيم نهر البارد، أبرزه التراجع البطيء في هذا الموقف من تأييد مطلق للجيش إلى محاولة تسييس مشكلة عسكرية. وهو ما أدلى به ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عباس زكي، بعد اجتماعه برئيس الحكومة، أمس، عندما قرن دعم الجيش وإدانة «فتح الإسلام» بتحفظ ضمني عن دخول الجيش إلى مخيم نهر البارد نظراً إلى أن قراراً كهذا ـــــــ كما برّر زكي ــــــ لن يؤدي إلى القضاء على التنظيم المتشّدد.
وهو بذلك يفصل تماماً بين مواجهة «فتح الإسلام»، والمغزى السياسي لاستقلالية المخيمات بأن تبقى خارج سيطرة الشرعية اللبنانية، سواء كانت الكلمة الفصل فيها لمنظمة التحرير الفلسطينية كما في مخيم عين الحلوة، أو لسواها من المنظمات والفصائل كحال مخيمَي البداوي ونهر البارد.
5 ـــــ أن عدم حسم الموقف العسكري ـــ وهو واقع ما هو دائر بين الجيش ومسلحي «فتح الإسلام» عبر حصر المواجهة بخطوط تماس ـــ يُخرج المواجهة تدريجاً من نطاق ملاحقة تنظيم متشدّد مطلوب من العدالة اعتدى على الجيش، إلى آخر أكثر خطورة هو تعميم المواجهة العسكرية. والمقصود بذلك إدخال أطراف آخرين، فلسطينيين ومتشدّدين سنّة فيها.
واستناداً إلى معلومات أمنية، فإن مسلحين من خارج تنظيم «فتح الإسلام» انضموا إلى الأخير في المعارك العسكرية ضد الجيش لأسباب عقائدية، مما ينبئ باستنزاف طويل ما لم يُطلب إلى الجيش حسم المعركة العسكرية في أسرع وقت ممكن. ودون هذا الخيار صعوبات سياسية أيضاً.
6 ـــــــ رهان بعض الأفرقاء اللبنانيين، والفلسطينيين خصوصاً، على تدخّل عربي لاستيعاب التصعيد العسكري العنيف، والإيحاء بضرورة التوصل إلى وقف للنار خشية انهيار الاستقرار اللبناني، على نحو مطابق تماماً للطريقة التي قاربت بها دول عربية عامي 1969 و1973 الاشتباكات التي اندلعت بين الجيش والمنظمات الفلسطينية. فإذا بالمخيمات الفلسطينية أضحت في نهاية المطاف ترسانات قادت لبنان إلى الحرب.