غسّان سعود
كأن الفقر والحرمان وحدهما لا يكفيان، لتضاف إليهما مآسٍ أخرى. يعود رجال البذلات المرقطة إلى قراهم العكارية محمولين على الأكتاف. 15 شهيداً، وعائلات عكارية أخرى ما زالت تنتظر، وتعيش بقلق

هنا عكار. الجيش مورد الرزق الأساسي، الفرصة والحلم. وهنا الولاء لهذه المؤسسة يتقدم على الانتماء السياسي. يرفض معظم الأهالي التعليق على استشهاد أبنائهم، فيما يؤكد أصدقاء الشهيد سعد محمد قاسم أن ابن الثلاثة والعشرين عاماً «استشهد فداء الشيخ سعد، ومع لبنان رفيق الحريري ضد النظام السوري». ويطالبون «تيار المستقبل بتوزيع السلاح عليهم كما يفعل في بلدات أخرى حتى لا يذهب دم سعد هدراً». وأكد والد الشهيد استعداده التطوع في الجيش للرد على «فتح الشياطين». وقبل أن تغيب شمس يوم الحرب الثاني، تعلن قيادة الجيش أن تسعة من الشهداء العسكريين هم من عكار أيضاً. تزداد رقعة الغضب، يتحرك تجار السياسة بخفة بين هذه البلداتليتهموا ويصدروا الأحكام، ويدعوا الأقرباء والأصدقاء المنفعلين إلى التهيّؤ للرد، ليس على مقاتلي فتح الاسلام، بل على أسيادهم.
هكذا فقدت الحياة العكّارية بساطتها بسرعة قياسية. وتحولت الدقائق ثقيلة ومملّة. توقّف القصف. تجدّد القصف. فُتح الطريق الدولي. أُقفل الطريق الدولي. تتراكم الأضداد والمعلومات المتناقضة. معظم العسكريين الذين «يخوضون الحرب» هم من البلدات العكارية الملاصقة للبارد. الإسلاميون والجيش تحوّلوا أبطال يوميات العكاريين التي وجدت فجأة ما يبعث الحياة فيها، وشُغل الناس بالقصص غير عابئين بتوقّف أعمالهم.
استيقظ العكاريون أمس باكراً، قرابة السادسة صباحاً، حين ارتجّت منازلهم من صدى قصف الجيش المكثف إثر هجوم الفتحاويّين على موقع الجيش في العبدة. وكان الحلّاقون سباقين في فتح محالّهم. حيث ازدحم المتدينون الاسلاميون، وهم كثر جداً في عكار، لحلق ذقونهم أو ترتيبها. وخلع معظمهم العباءات التي يرتدونها عادة، خوفاً من تلفيق تهم بحقهم. وأشار أحدهم إلى ان الالتباس السياسي الذي يحيط بحركة فتح الإسلام يمنعه وزملاءه من أخذ قرار نهائي بشأنها. وبالتزامن مع اشتداد المواجهات بين الطرفين قرابة الساعة التاسعة، اجتاحت المنطقة موجة شائعات عن خروج المسلحين من المخيم ولجوئهم إلى البلدات المجاورة. وأكد شهود عيان من بلدة ببنين أن سيارة من نوع مرسيدس زرقاء اللون، تمتلئ بالمقاتلين، عبرت البلدة بسرعة كبيرة باتجاه جرود عكار. ونزل عدد من أهالي هذه البلدة إلى شوارعها حاملين بنادق الصيد ومسدسات حربية ومعدات زراعية لمواجهة «أزلام سوريا» إذا ما حاولوا دخول البلدة أو المرور فيها، فيما تحدّث أحد قادة تيار المستقبل في هذه البلدة عن ضباط سوريين يقاتلون الجيش اللبناني. وأكد أحد عناصر القوى الأمنية عدم التحاقه بوحدته نتيجة توسط أحد نواب المنطقة مع الضابط المسؤول عنه. وشهدت بعض البلدات بين العبدة وديردلوم انتشار مسلحين مدنيين، بدا من علاقتهم الطيبة مع أفراد القوى الأمنية، تأييدهم لتيار المستقبل.
من جهة أخرى، ازدادت حدة الانقسام السياسي، وبلغت في بعض البلدات درجات خطيرة دفعت رؤساء البلديات وقادة الأحزاب للتدخل.
ومع الإعلان عن وقف النار لمدة ساعتين، سارع عكاريون كثر للانتقال إلى منازلهم في بيروت حيث يعملون. لكن سرعان ما خرق وقف النار ليعود شباب الصليب الأحمر والدفاع المدني هذه المرة بروايات فريدة، متحدثين عن لغة الرصاص العنيفة التي تخرق كل ما تصطدم به. وفيما انخفض الضغط على المستشفيات نتيجة عدم التمكن من الوصول إلى المصابين، استقبلت بعض البلدات المجاورة للمخيم أكثر من أربعمئة شخص، معظمهم لبنانيون من سكان المخيم الذي يضم قرابة 40 ألف فلسطيني.
واستكمل المشهد العكاري بربط كثيرين بين فتح الاسلام وتنظيم «التكفير والهجرة»، وربط البعض بين استهدافهم للعسكريين حصراً وميولهم السياسية. كما حذر آخرون من أن يكون هذا الأمر مقدمة لطلب الحكومة انتشار قوات حفظ السلام الدولية على كامل الأراضي اللبنانية.
ومساءً، عاد العكاريون إلى شرفات منازلهم المطلة على المخيم، لتأمّل صورة المخيم المضاء بالبالونات وأعمدة الدخان المتصاعدة من أكثر من نقطة. وسط بروز آراء جديدة تدعو إلى أخذ القوى الأمنية والسياسية بعين الاعتبار وجود مدنيين، يقضون ليلتهم الثانية من دون دواء وطعام وأمور أساسية أخرى.