strong> غسّان سعود
استشهدوا. تبلغ الأهالي النبأ. بكوا وانتظروا الجثامين، ليرقصوا بهم، يضموهم، ويودّعوهم على عجل. عادوا فارغي الأيدي، دون ربطات الخبز التي اعتادوا حملها إلى عائلاتهم. ولم يمشوا المسافة الطويلة التي تفصل بين بلداتهم والطريق العام، إذ تسابق الأحبّة إلى رفع نعوشهم والسير بها.
مشهد استثنائي في بلدة عين الزيت. جنازة صامتة. يمشي الأهالي صامتين خلف سيارات الجيش التي تحمل نعوش ابنيهما: باسم أحمد وشادي رستم. الأول لم يبلغ الثالثة والعشرين من عمره، فيما كان رستم يعدّ ليحتفل بعيد ميلاده العشرين. يبدو الحزن شخصياً في عيون أهل هذه البلدة العلوية الصغيرة. تتحدث سيدة عن شوقها لتقبيل جبين ابنها وسؤاله عن الوجبة التي يرغب بتناولها. وتندب أخرى حظها ندماً على «تقبيل أيدي السياسيين ليدخلوه إلى الجيش دون معرفتنا أننا نحفر له قبره»يتجنب أهالي هذه البلدة الكلام السياسي، وخصوصاً أن غالبية الرجال ينتمون إلى المؤسسة العسكرية. ويقول هؤلاء إنهم يدينون لهذه المؤسسة بأكثر من شهيدين بكثير..
وعلى بعد مئات الأمتار فقط من عين الزيت، كانت بلدة السنديانة تستقبل شهيدها الثاني العريف أحمد الحمد، وعلت هتافات عدة تطالب بمحاكمة «القتلة» وبالتسلح لينتقموا بأنفسهم.
وبموازاة الحدود اللبنانية السورية، في بلدة وادي خالد، رفع نعش العريف محمد رمضان وسط هتافات التكبير والدعوات إلى محاكمة المسؤولين اللبنانيين المقصّرين. وأكد معظم المشيّعين أن السلطات السورية تراقب الحدود وتتشدد في التدقيق بهوية الداخلين والخارجين أكثر مما تفعل السلطات اللبنانية. وبالقرب من «الوادي»، كان رجال مشتى حمود يكررون مشهد الصمت في عين الزيت ويسيرون خلف نعش محمد رمضان حاملين الورود وصوره.
فيما انتظر أطفال الرقيب محمد صالح الخمسة، في بلدة القرنة، والدهم أكثر من ساعتين، وانشغل أصغرهم بالسؤال عن معنى كلمة الموت التي يسمع بها للمرة الأولى، عاد أحد الأبناء يومين إلى الوراء حين وعده والده قبل التوجه إلى «الخدمة» بأن يهديه دراجة هوائية إذا أنهى عامه الدراسي بنجاح. وكانت الزوجة المنهارة تسأل: كيف يقتل زوجها، التقيّ في ممارسته لدينه، باسم الاسلام؟ وتطلب من الله الانتقام.
عيّات، في الجهة الأخرى من عكار، كانت بدورها على موعد مع جنازتين بطلاهما: زياد حبلص ومحمود باكيش. كان الاستياء عاماً. وأمل الناس بأن يبرد الجيش غليلهم ويثأر لبطليهما. وتحدثوا عن نقمة ضد وحشية «الأصوليين الفلسطينيين». وأكد رئيس بلدية عيات خالد أحمد أنه لا دين لهؤلاء القتلة ولا هوية. وسأل «الريس» عن سبب تغاضي أجهزة الدولة عن المسلحين، وكيف سمح لهم بالدخول، ولماذا لم يمنعوا من الانتشار بهذه الطريقة. وانشغل أهل البلدة بروايات عمّا تعرضت له جثة حبلص الذي كان وسط الجنود الذين أسروا فجر يوم الأحد الماضي وتعرضوا للقتل بطريقة بشعة.
أما «خزان العسكريين» كما يطلق عليها العكاريون، أو عكار العتيقة، فقد غرقت بالحزن والأسى. وبدا الوجوم والتأثر واضحاً في هذه البلدة التي لا يخلو منزل فيها من عسكري أو أكثر.
أول من أمس ودّعوا شهيدين، وأمس شهيداً آخر. والحبل على الجرار بحسب مختار البلدة محمد جميل الذي أكد باسم أبناء بلدته أن المسؤولية تقع بشكل أساسي على عاتق قوى الأمن الداخلي الذين لم ينسّقوا مع الجيش. وأسف أحد أقرباء الشهيد نزيه نادر لتلكّؤ الحكومة. وأكد أن لامبالاة الأكثرية النيابية بما تعرضت له المؤسسة العسكرية بكل ما تمثله للعكاريين جعلهم يعيدون حساباتهم.
تمدد الحزن. بزبينا شيّعت الرقيب خالد تليجي، حيزوق مشت وراء نعش محمد الحسين، الأمبر بكت أحمد الشيخة، برج العرب ودّعت أحمد الحمد، وكفرتون كلّلت بطلاً جديداً اسمه محمد علي. فيما اجتمع أهالي ببنين المنقسمين سياسياً حول نعش شهيدهم الثالث في المواجهات أحمد المصري.




من الضنيّة إلى الزهراني

من عكّار إلى الضنيّة، الحزن نفسه، وكذلك الغضب والسؤال كيف يُغدر هكذا بالعسكريين. تفرض هذه المؤسسة احتراماً معيناً، يقول أحد المسنين، ويستعيد مشاهد عدة قبل أن يلاحظ أن العداء للجيش يجمع زعماء السلطة الرئيسيين. فقد شيّعت بلدة طاران في الضنية الشهيد بلال أحمد. وودّعت أحياء طرابلس يحيى المسلماني، فاروق المخللاتي، ومؤمن الحصني. فيما صلّى أصدقاء الشهيد إيلي معلوف على راحة نفسه في كنيسة سيدة العناية ــــــ الدورة، وهو في الأصل من بلدة رشميا ــــــ قضاء عاليه، جارة قرنايل التي ودعت الرقيب مازن الأعور.
بدورها، اتّسعت بلدة بنعفول في الزهراني لكثير من الأسى في وداع الملازم روي ابو غزالة قبل أن تستفيق عائلته من الفرحة برؤية النجوم تتلألأ فوق كتفيه. وكان لافتاً غياب ممثل رئيس الحكومة، فيما حضر ممثّلون عن رئيسي الجمهورية ومجلس النواب.