strong>بيسان طي
بين الهاتف والتلفزيون يمضي أبناء المخيمات الفلسطينية وقتهم. هم قلقون على أقاربهم في مخيّم نهر البارد، الذي كان جنة المخـيّمات، وتحوّل في يوم وليلة إلى جحيم يكتوون بناره. زيارة لمخيّم برج البراجنة تقدّم صورة عن القلق الذي يعيشه هؤلاء


  • عندما تحوّل المخيم الرومنسي الهادئ إلى جحيم يحاصر سكانه

    صمت ثقيل خيّم أمس على مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين. الأطفال الذين كانوا يملأون الزواريب الضيقة لعباً، انزووا في منازلهم. والشبان الذين كانوا يتوزّعون في زوايا تلك الزواريب اختفوا. المتاجر فتحت أبوابها ولكن الروّاد قلة... سكان المخيم لزموا بيوتهم، عيونهم شاخصة إلى شاشات التلفزة، وفضائية «الجزيرة» سيدة الموقف، كلامها مسموع بعدما حازت ثقة الفلسطينيين.
    لكن التلفزيون لا يحمل إجابة عن سؤال يختنق به الأهالي: كيف تحوّل «نهر البارد» من «جنة المخيمات الفلسطينية في لبنان» إلى جحيم يحاصر الأطفال والحبالى والمسنين، ولماذا تُدكّ المنازل على رؤوس قاطنيها المدنيين الأبرياء؟
    الإجابة وجدوها في تنظيم مسيرة صامتة شارك فيها نحو 200 شخص انطلقت من عيادة الأونروا في المخيم في اتجاه مقبرة الشهداء. وألقى خلالها الشيخ محمد عبد الحليم كلمة أهالي برج البراجنة مستنكراً ظاهرة «فتح الإسلام» الغريبة عن الإجماع الفلسطيني، ودعا السلطات اللبنانية إلى «وقف نزيف دم المدنيين في نهر البارد».
    الشائعات تخلق الهوّةكان يكفي أن تنطق امرأة بهذه الكلمات ليتتابع سيل الاحتجاج، فالجيش اللبناني صار في نظر الفلسطينيين إحدى وسائل القضاء عليهم. يستغربون الحملة ضدهم «هل خُلقنا لكي نُباد؟»، يكرهون التحليلات التي تربط تنظيم «فتح الإسلام» بالفلسطينيين، يحتارون متسائلين «لماذا تصرّ الدولة على ربطنا به، ونحن نرفضه؟».
    الأخبار التي يتم تناقلها في برج البراجنة مؤلمة، إذ يقولون إن الجيش يقصف مخيم نهر البارد بمدافع الهاون، وإن نساء حوامل أجهضن أجنّتهن، وأن «المخيم يُضرب بالكاز والمازوت»، وأن القصف يأتي من البحر أيضاً، وقد سمعوا بأن «أبناء طرابلس والمنية» يعترضون حاملي المساعدات إلى نهر البارد ويسألون «لماذا نساعدهم إنهم مجوس».
    الشائعات هي سيدة الموقف إذاً، تغذّي غضب الفلسطينيين الذين لا يفهمون «كيف يتحولون في كل ظرف أو حادثة إلى كبش فداء».
    بين الهاتف والتلفزيون مالك بيتم الذي يبلغ من العمر 5 سنوات ترك منزل ذويه يوم السبت الماضي ليمضي يومين برفقة خاله في مخيم نهر البارد، وما زال عالقاً هناك يقاسم أهالي المخيم يومياتهم الدامية. أمه سهير مرابضة أمام الهاتف، أمضت يومين وهي تحاول الاتصال به، وتمكّنت من ذلك الساعة 12،30 منتصف ليل الثلاثاء، لتطمئن عليه. تتماسك السيدة الثلاثينية، وتذكر أنها لم تترك منزلها في برج البراجنة خلال حرب تموز، وأنها كانت تقنع أولادها بأن القنابل التي ألقتها الطائرات الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية هي مفرقعات. تعيش سهير منذ اندلاع المواجهات بين آلتين: الهاتف والتلفزيون، تبتسم لطفليها الآخرين، تغطيهما، تبدو واثقة من أنها ستكمل حياتها بشكل طبيعي «أنا قلقة، ولكن ما باليد حيلة، ابني ليس أفضل من أهلي ومن اللاجئين في المخيم»، يخونها «حنانها»، تنهار المرأة المتماسكة لحظة تتذكر كلمات ولدها على الهاتف «ماما أنا مبسوط، هم يرمون المفرقعات ونحن نركض من منزل إلى آخر». تختنق سهير، وتجهد لتكمل حديثها، كلماتها متقطعة تقول من خلالها إن ابنها لا يأكل إلّّا طعاماً قليلاً «تُفتح علبة المارتديلا، ويأكل كل شخص لقمة واحدة».
    سهير لم تتمكن من معاودة الاتصال بابنها وأهلها. تتسمّر أمام التلفزيون وتنتظر أن ينطق المذيع بعبارة «اتفاق على وقف إطلاق النار»، هذه العبارة هي خشبة خلاص سيتعلق بها ابنها ليعود إليها، كما تؤكد لمحدّثيها، ولكنها لا تعرف كيف سيخرج من المخيم ومتى، وبرفقة من؟
    المخيّم «الرومنسي»
    على رغم القلق الذي يسكنها، وعلى «رغم مشاهد الدمار والأخبار السيئة»، تصف سهير مخيم نهر البارد «برومانسية»، فهناك ولدت وترعرعت. كانت تقطع شوارعه لتطل على البحر، وكان بيت ذويها «في عينة السكة من جهة النهر». وهي تفخر بمكان نشأتها، «مخيم نهر البارد آمن، وهادئ»، هو بالنسبة إلى سكان المخيمات الأخرى «نموذجي» لا تسد جدران الباطون أفقه، بل ينسحب حتى البحر وتصير السماء هي حدود الأفق، وفي المخيم سوق لكل الفقراء، إذ كان الزبائن من عكار وطرابلس يقصدونه قبل تشديد الإجراءات الأمنية على المخيم قبل شهور.
    مسؤول مخيم برج البراجنة في الجبهة الديموقراطية أحمد مصطفى يلفت إلى أن علاقات جيدة نسجها أبناء نهر البارد ــ والعاملون في السوق بشكل خاص ــ مع سكان القرى والبلدات المحيطة بهم، وأن المخيم لم يتعرض «لهزات سياسية أو أمنية»، لذلك هو غير مجهّز لمواجهة الأحداث الأمنية التي يعيشها حالياً فلا مستشفيات فيه ولا فرق مدربة لمداواة الجرحى. وسكانه سارعوا إلى نجدة عناصر الجيش اللبناني عندما تعرض مركزه في العبدة للقصف الاسرائيلي خلال حرب تموز الأخيرة.
    في المخيم الذي كان هادئاً قبل أن يتسلل إليه عناصر فتح الإسلام، ينحشر عشرات الأشخاص في غرفة واحدة. أشرف أبو خرج مدرب فريق كرة قدم، حاول منذ اليوم الأول أن يبحث عن «طوق النجاة»، وفجر أمس تمكن من إرسال رسائل خلوية إلى أصدقائه الصحافيين اللبنانيين، قال لهم فيها «ساعدونا، إنهم يدمرون منازلنا، وحالنا مأساوية»، ولكنه لم يجد من يساعده، كان يحمل أولاده وأهله ويهرب بهم من منزل إلى آخر. بيته عند أطراف المخيم في حي الصفوري، وقال أمس في اتصال هاتفي خلال «الهدنة» التي عقدت بعد الظهر «حين يشتد القصف كنا نلتف على بعضنا، ننتظر أية لحظة هدوء لنهرب إلى منزل ما في وسط المخيم، 40 ألف شخص من السكان اختبأوا في عدة أمتار مربعة وسط المخيم»، وقال إن جثث عشرات المدنيين الذين قتلوا تركت في المنازل المهجورة، وإن الماء انقطع عنهم والكهرباء، ولا يأكلون إلاّ فتات ما يجدونه في البيوت التي يتجمّعون فيها بالعشرات. هو يستغرب لماذا لم تلتفت القوى الأمنية إلى تحركات أفراد تنظيم «فتح الإسلام»، وأكد أن أهالي المخيم كانوا يستاؤون من وجودهم داخل المخيم.
    أشرف الذي انفرجت أساريره عند إعلان الهدنة، يقول إن شباناً خرجوا في مسيرة عفوية يؤكدون رغبتهم في حياة آمنة، وهرع هو مع أصدقائه وأقاربه لملاقاة سيارات وكالة الأونروا والصليب الأحمر التي تحمل المساعدات، فتجمع معهم حول الشاحنة وهم يرفعون أياديهم ليلتقطوا ربطات الخبز ويحملوها إلى صغارهم، لم تدم فرحته طويلاً، إذ قُصفت شاحنة المساعدات ولم يعد يجد أصدقاءه... بعد ساعات عاد يبحث عن «مساعد» جديد، هذه المرة لم يجد صعوبة في الاتصال: «لم نحمل ربطات الخبز، الجرحى وربما القتلى ما زالوا في مكانهم قرب الشاحنة، نحن في أسوأ حال، ساعدونا».


    «فتح الإسلام» مرّ من «مخيّم البرج»!
    يروي بعض سكان مخيم برج البراجنة أن رحلة أفراد «فتح الإسلام» من صيدا إلى الشمال مرّت بمخيّمهم. لم يشعر الأهالي بوجودهم، لكنهم يعرفون أن هؤلاء حاولوا أن يعيشوا بينهم. استأجروا شققاً عند أطراف المخيم ولم تدم إقامتهم أكثر من يومين. فبحسب سكان المخيم تولى أعضاء اللجنة الأمنية في برج البراجنة أمر «طردهم من المخيم» من دون أن يتنبه إلى وجودهم إلاّ قلة. وكما دخلوا «في جنح الظلام، أُخرجوا بهدوء شديد من برج البراجنة، فأهالي المخيم لا يحبون الغرباء الذين يثيرون المشاكل والبلبلة ويعكّرون أمن الأهالي».
    يكره أبناء برج البراجنة أفراد هذا التنظيم، فالاشمئزاز واضح لدى حديثهم عنه. لا يحتاجون إلى التأكيد أنه بالفعل ظاهرة غريبة عنهم. أفراده لا وجوه لها ولا أسماء. هم أشخاص مبهمون، مروا كالطيف في مخيم البرج ثم أُخرجوا منه. لذلك ظلوا بالنسبة إلى أهالي المخيم شيئاً مبهماً، عرفوا بوجوده من خلال أحاديث تناقلوها بعد إبعاد أفراد التنظيم. وثمة سكان عرفوا أخيراً أن «عناصر فتح الإسلام مرّت من هنا» فواجهوا هذا الخبر بعبارات التعجب، وراحوا يطرحون أسئلة تصعب الإجابة عنها. يريدون أن يعيدوا نسج الحكاية من خلال الأسئلة «متى كانوا هنا؟ أين حلوا؟ من رآهم؟ هل يشبهوننا؟ هل هم حقاً فلسطينيون؟». وتبقى الأسئلة الأهم التي لن تجد من يجيب عنها: «كيف انتقل أفراد فتح الإسلام من صيدا إلى بيروت ثم نهر البارد؟ من سهّل تنقلاتهم من الجنوب إلى الشمال؟ ما هي أهداف من نقلَهم، وما هو الثمن الذي ابتغاه؟».
    من يعرف سكان برج البراجنة يدرك بسهولة صعوبة تعايشهم مع تنظيم متطرف. فهذا المخيم «يعيش حياة عصرية» بنظر سكان مخيمات أخرى. ترتفع الأغاني من المنازل، ويتوزع فيه شبان يسرّحون شعورهم «عالموضة». وقد يصادف الزائر شاباً يضع قرطاً قرب حاجبه. لا يعني هذا الوصف أن التنظيم الاجتماعي في مخيم برج البراجنة يتضارب مع نمط حياة أبناء المخيمات الأخرى. ولكنه أكثر انفتاحاً، على رغم اكتظاظه بالسكان وزواريبه المعتمة التي يستحيل حفظها.