إبراهيم الأمين
منذ انهيار المرجعية السياسية والامنية السورية في لبنان غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإحداث تغييرات جدية على مستوى قيادة الجهاز الامني ــــ السياسي، ثم خروج سوريا العسكري والسياسي المباشر من لبنان، أعيد الاعتبار الى النقاش الذي حاول الرئيس الحريري فتحه في زمن سابق، والذي يتصل بتوازن أمني ـــــ سياسي من خلال آلية الإشراف على عمل المؤسسات الامنية، وهو كان قد اقترح قبل سنوات طويلة منح قوى الأمن الداخلي هامشاً إضافياً يتيح لها بناء تنظيم أمني يتبع عملياً لرئاسة الحكومة، لكن الأمر انتهى يومها بتسويات لا تفيد في شيء ومنها تعيين مقربين من الحريري في مواقع أمنية حساسة من باب إطلاعه لا إشراكه في القرار. إلا أن الصورة التي تمناها الرئيس الراحل لدور قوى الامن وللحد من دور الجيش الذي كان خصماً له حتى وصول الرئيس اميل لحود الى السلطة، تحققت بعد مقتله.
فجأة تحول فرع المعلومات الى مركز الأمن السياسي الرئيسي في البلاد. فوضى سياسية وإدارية لاحقت عملية انتقال السلطة من الفريق المؤيّد لسوريا الى الفريق المؤيّد للولايات المتحدة التي عملت بقوة وكثافة على ترتيب مساعدات متنوعة بينها ما يتعلق بهيكلية الفرع وتجهيزه الحديث وتدريبه على آليات عمل متطورة بما في ذلك فتح الآفاق أمام آليات عمل جديدة لم تكن متوافرة في لبنان. وحصل ذلك في فترة قياسية، وبذل القيّمون على الجهاز جهداً مضنياً في مشروع بناء جهاز قوي بات ينافس غيره من الاجهزة، ولولا الطابع السياسي المتحيّز لإدارته وطبيعة الاولويات السياسية الموضوعة أمامها لكان هذا الجهاز يحظى الآن بدعم اكبر على الصعيد الشعبي والسياسي، علماً بأنه نجح في تحويل عشرات الكوادر من تنظيمات 14 آذار الى مخبرين متعاونين معه، وشغل المئات من عناصر هذه التنظيمات في اكبر عملية جمع للمعلومات، عدا عما كان يحصل عليه من أجهزة امنية عربية وغربية عملت على تخصيصه دون غيره. ووصل الامر حدود الحاجة الى تنسيق من النوع الذي يتطلب إقامة علاقة تبادلية ولكن من طرف واحد مع بقية الاجهزة، وهو الامر الذي جرب تيار «المستقبل» تحقيقه من خلال الاقتراح الشهير للوزير احمد فتفت بوصل جميع الاجهزة في شبكة معلومات مفتوحة، كان الهدف منها وضع اليد على معلومات وملفات الأمن العام، وربط مديرية المخابرات في الجيش اللبناني بآلية ينتج منها تحول فرع المعلومات، برغم عدم صدور قانون يشرعه تماماً، المرجعية الامنية الوحيدة في البلاد.
ولأن الامور لا تستقيم دون خطوات ميدانية، باشر هذا الجهاز بإقامة أداته التنفيذية المتمثلة بمجموعة الفهود من جهة وبعشرات من العناصر التي تتحرك بلباس مدني وبآليات مدنية مع عمليات تمويه بعضها بدائي وبعضها ينكشف بفعل الرغبة الاستعراضية لدى بعض العناصر، أو حتى بفعل حاجة مسؤولين في الدولة وفريق الاكثرية الى إبراز العضلات في معرض جذب الآخرين أو ترهيبهم.
وهنا برزت المشكلة الاكبر في أنه ليس في العالم كله تعدد رؤوس امنية وتعدد في القوى التنفيذية لهذه الاجهزة. لكننا في بلد العجائب.. لبنان!
ولكن هل يقف الامر عند هذه الحدود؟
دلت الثغرة التي بانت في أحداث الشمال على أن المتابعة الامنية لتنظيم فتح ـــــ الاسلام جرت على خلفية امنية موضعية، وهي المشكلة التي ترافق عمل كل الاجهزة الامنية في العالم العربي، حيث لا يجرؤ الامنيون على مصارحة قيادتهم السياسية بأن للأمر خلفيات متنوعة بينها ما يتصل بالواقع الاجتماعي وواقع البلاد السياسي عموماً وواقع المنطقة وما يحصل. وهي متابعة جعلت فرع المعلومات وحتى اجهزة امنية اخرى تقلل من حجم هذا التنظيم، وحوّلته بقرار سياسي الى أداة تديرها اجهزة استخبارات خارجية، تقول السلطة انها المخابرات السورية، بينما يملك آخرون معطيات كثيرة عن علاقة اجهزة استخبارات عربية اخرى بها من بينها النشاط المتزايد للمخابرات الاردنية ( تتولى التنسيق العملاني بين المخابرات الاميركية والاسرائيلية ومخابرات دول عربية عدة وقد زاد نشاطها في لبنان خلال العامين الاخيرين). وعندما حصلت المواجهة ظهر فجأة ان لهذا التنظيم امتدادات جدية خارج المخيمات، وقدرات من النوع الذي يمكنه من القيام بأعمال ذات طابع امني في اكثر من منطقة ولمدة طويلة ايضاً.
وبدا ان المتابعة كانت تستهدف من جهة معرفة وضع عدد من «المقاتلين العرب» وهؤلاء من الذين وفدوا الى لبنان عبر كل معابره البرية والجوية، وبينهم مجموعة آتية من دول خليجية ولا سيما السعودية، وقدمت الاستخبارات السعودية كما الاميركية المعلومات الكثيرة عن تحركاتهم وبعض هذه المعلومات مستقاة اصلاً من المخابرات السورية ايضاً. وكانت هناك رغبة توفير خدمات عامة اكثر من التوصل الى آليات تحد من مخاطر هذا التنظيم، بحيث اظهرت المعطيات الكثيرة التي توافرت خلال اليومين الماضيين أن هناك نقصاً حاداً في متابعة مركز تصدير المقاتلين العرب، حيث بدا الوضع في العراق مختلفاً الآن عما كان عليه سابقاً، ونقطة التحول هي أن كل العاملين هناك ضمن إطار عام يسمى «القاعدة» لم تعد لديهم مشكلة رجال، وصار مطلوباً التخلص من الوافدين، وحصلت مشاكل كثيرة مع مقاتلين عرب عادوا طرداً من العراق وبينهم عشرات من اللبنانيين، وأخبار القرى والبلدات في الشمال والبقاع وفي المخيمات كثيرة عنهم. ثم حصل تطور في تحويل مهمة المساندين في لبنان من «موقع نصرة ودعم» الى موقع «فعل وهجوم» وهو الامر الذي تطلب آليات عمل جديدة، وهذا ما يفترض التعامل مع فتح الإسلام كما مع غيرها من هذه المجموعات بآلية مختلفة.
كذلك فقد تجاهلت القوى الامنية، ومنها فرع المعلومات على وجه التحديد، التحذيرات ذات الطابع السياسي من أن التغاضي عن تمدد هذه المجموعات لن يفيدها في شيء، وأن ما تحدث عنه خبراء من الغرب وما كتبه سيمور هيرش عن الوظيفة السياسية لهذه المجموعات بوجه ما يصفه هؤلاء بـ«التمدد الشيعي» أوصل الأمور الى حد انه يجب توفير مناخ عام لهذه المجموعات بغية ترهيب الشيعة او حزب الله على وجه التحديد وإبقاء هذه المجموعات تحت الرقابة والسيطرة من جهة ثانية، ولكن حصل ان الضغوط الخارجية من الاميركيين والسعوديين أقفلت باب المناورة لوقت ضيق، علماً بأن فرع المعلومات تصرف على أنه القوة الاكثر امتلاكاً لهامش المناورة، وأنه في مواجهة هذه الجماعات يعمل في «مناطق غير معادية»، وهو توصيف لا يجوز أن يؤخذ على أنه إهانة لهذه المجموعة، باعتبار ان الطابع السياسي ــــ الطائفي الغالب على فريق فرع المعلومات لا على توزع عديده الطائفي والمذهبي، يتيح له العمل براحة اكبر في المناطق ذات الصفاء السني، لكن هذا الهامش بقي ضيقاً جداً عند اندلاع المواجهات.

الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث