عرفات حجازي
توحي تطورات الأحداث الدامية منذ «الأحد الأسود» بأنها مجرد جولة، بدت غير حاسمة، في معركة كبيرة ومفتوحة بين السلطة اللبنانية والمنظمات الارهابية المتطرفة التي اتخذت من تنظيم فتح الاسلام مجرد واجهة وعنوان لحالة باتت موجودة على الارض وتمتلك من القدرات المالية والتسليحية ما يؤهلها لإحداث إرباكات واضطرابات وهزّات أمنية، مستفيدة من اللحظة السياسية الراهنة ومن إمكاناتها في جذب الأنصار والمؤيدين من بيئات أصولية سلفية متطرفة. وفي قراءة موضوعية للخلفيات والنتائج السياسية التي أرخت بظلالها على مجمل الوضع اللبناني، وأعادت خلط أجوائه الامنية وأوراقه السياسية، يمكن الخروج بالخلاصات الآتية:
أولاً: ظهر اتجاهان لبنانيان في معالجة ظاهرة «فتح الاسلام»، أحدهما يدعو الى الحسم السريع واستخدام القوة لاجتثاث هذه الظاهرة بعد ضربة الغدر الموجعة التي وُجهت الى الجيش وألحقت خسائر فادحة في صفوفه ومعنوياته، عدا أن هذا التنظيم يمثّل بؤرة قابلة للتوسع والتمدد اذا لم يصر الى استئصالها بسرعة، واتجاه آخر يدعو الى التريث وعدم التسرع بالقيام بعملية جراحية واسعة تكون كلفتها باهظة بعد تحويل سكان المخيم رهائن ودروعاً بشرية، كما أن الهجوم على المخيم للقضاء على الإرهابيين سيفتح مشكلة اكبر وأكثر تعقيداً مع المخيمات الفلسطينية، لا سيما أن الفصائل الفلسطينية مجمعة على وجوب التخلص من «فتح الاسلام» ووفّرت التغطية للسلطة اللبنانية، لكنها رفضت الدخول العسكري الى المخيم مفضّلة استخدام وسائل أخرى لإنهاء هذه الظاهرة وعزلها من خلال اتباع سياسة النفَس الطويل واصطياد عناصرها تباعاً بالتعاون بين الأجهزة الامنية اللبنانية والفصائل الفلسطينية داخل المخيمات.
ثانياً: أظهرت الأحداث المتتالية بدءاً من مخيم نهر البارد وانتهاء بمتفجرتي الاشرفية وفردان، أن وتيرة الانحدار متسارعة وأن سياق الأمور يشير الى أن المواجهات قد تخرج عن نطاق السيطرة وتخترق الدائرة الضيقة التي تجري فيها، وربما مهّدت لدخول لاعبين جدد على خط الأزمة وتوسيع اطار المعركة.
ثالثاً: ثبت من خلال الوقائع والوثائق، أن ثمة مواقع سياسية تتحمل المسوؤلية في حماية الحركات الاصولية المتطرفة وتناميها لأسباب مذهبية ومناطقية وانتخابية، وحماية عناصرها من الملاحقات الامنية والقضائية وتمكينها من مد خيوطها داخل المخيم وخارجه. وبيّنت التحقيقات أن بعض الذين شاركوا في الأحداث الامنية على صلة بالأحداث التي وقعت في جرود الضنية عام 2000 وأطلقوا عام 2005 بعد محاكمات لم تكتمل بموجب عفو عام، مع الاشارة إلى أنه جرت خلال الاسابيع الاخيرة توقيفات لعناصر أظهرت التحقيقات أنها على ارتباط بـ «القاعدة»، فارتفعت الاصوات وجرت مداخلات من مرجعيات حذرت من توسيع مروحة الاعتقالات وتوسطت لإطلاق الموقوفين.
رابعاً: الإجماع اللبناني ــ الفلسطيني على التضامن مع الجيش الذي تعرض لمذبحة غدر قاسية، وإدانة التعرض له وإبعاده عن أي محاولة لاستنزافه وإدخاله في مستنقعات أمنية تنال منه وترتدّ سلباً على أمن البلد وأهله، والخوف على الجيش حالياً ليس مردّه الى التشكيك بقدرته على حسم الوضع في المخيم وخارجه ضد خلايا إرهابية، بل الخوف من الأبعاد السياسية لهذه المواجهات التي فُرضت عليه.
خامساً: الوقوف خلف الجيش موالاةً ومعارضة لا يلغي التمايز وواقع الاختلاف السياسي والقراءة المتباينة للأحداث التي وقعت وكيفية التعاطي معها.
ففيما ربطت الاكثرية تفجير الوضع الأمني في الشمال بموضوع المحكمة والتحذيرات من مغبّة إقرارها في مجلس الأمن وعواقبه على الاستقرار الداخلي، وصفت المعارضة ما حدث بأنه محاولة لاستدراج الجيش إلى مشاكل جانبية لتقويض هيبته وإظهاره مظهر العاجز عن التعامل مع مخيم بات اشبه بطائرة مخطوفة من الصعب التعامل معها على قاعدة إطلاق النار لفك أسر الرهائن، وهو ما يعني أن زجّ الجيش في معركة لشل قدرته يمهّد لمشروع استدعاء مراقبين دوليين الى لبنان وإخضاعه لمزيد من الوصاية الأجنبية.
سادساً: مثّلت الأحداث الأمنية مصدر قلق للجميع، موالاةً ومعارضة، في ظل وضع أمني مكشوف ومفتوح على مسارب خطرة اذا استمرت الأزمة السياسية المتمادية، وهذا ما دفع الرئيس اميل لحود إلى اطلاق نداء للقاء الجميع حول طاولة حوار للتفاهم على حكومة وحدة وطنية تنهي الاعتصام وتمهّد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وكذلك فإن الرئيس نبيه بري رأى أن المخرج الوحيد مما نحن فيه هو قيام حكومة وحدة وطنية وعلى قاعدة المبادرة التي قدمها للسعودية، محذراً من بقاء الوضع على ما هو عليه والبلاد مقبلة على استحقاقات مفصلية.
سابعاً: الاستنفار العربي والدولي مدفوعاً بالمخاوف من تداعيات التدهور الأمني على القرارات الدولية وعلى السلم الاهلي وإعادة تحريك الفتنة المذهبية، وهذا ما عزز القناعة العربية والدولية بوجوب الإسراع بإعادة فتح الحوار بين القوى السياسية لحل الأزمة السياسية ومعالجة أسبابها، لأن لبنان لا يحتاج في هذه اللحظة السياسية الى مساعدات عسكرية عاجلة للتصدّي للإرهاب بل يحتاج أولاً الى دعم ومساندة وتشجيع لتحقيق المصالحة الوطنية وفتح الأفق أمام إعادة الاعتبار إلى مقررات الحوار وملاقاة الاستحقاق الرئاسي بمناخ توافقي يساعد على حل سياسي متكامل، هو وحده الكفيل بتحصين لبنان ووضع حدّ للظواهر الإرهابية التي تتسلل من خرم الأزمة الوطنية المستفحلة في البلاد.